«بريكست».. الديمقراطية البريطانية في خطر

03:26 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. محمد فراج أبو النور *

أزمة سياسية وبرلمانية حادة تواجهها بريطانيا خلال الأسابيع الأخيرة - وتزداد احتداماً كل يوم -؛ بسبب قضية الخروج من الاتحاد الأوروبي (البريكست) وهل يكون خروجاً ناعماً سلساً أم خروجاً خشناً بدون اتفاق مع الشركاء الأوروبيين؟
السياسيون البريطانيون الذين يعرفون ببرودة أعصابهم وألفاظهم المنضبطة يتراشقون بالألفاظ الحادة والاتهامات القاسية، ويلجأون إلى أساليب غير مألوفة في ممارسة الصراع السياسي.
بعد أن رفضت أغلبية النواب المحافظين - ومعهم عدة نواب من العمال وغيرهم - خطة تيريزا ماي للخروج، المتفق عليها مع مسؤولي الاتحاد الأوروبي، ودفع ماي دفعاً للاستقالة من زعامة حزب المحافظين ورئاسة الحكومة، جاء بوريس جونسون بدلاً منها، وهو المعروف بعدائه لاستمرار بريطانيا في عضوية الاتحاد الأوروبي، والذي بنى رصيده السياسي على هذا الموقف منذ أيام الاستفتاء على استمرار البلاد في عضوية الاتحاد الأوروبي أو خروجها منه (في يونيو/حزيران 2016) والذي انتهى بموافقة الناخبين على الخروج من الاتحاد العتيد بأغلبية ضئيلة (52% مقابل 48%).. كما أنه معروف بنزعته الشعبوية وشخصيته العنيدة المشاكسة، ويعده الكثيرون النسخة البريطانية من الرئيس الأمريكي ترامب.

إصرار جونسون

ومنذ البداية، أعلن جونسون عزمه على الخروج من الاتحاد الأوروبي بحلول نهاية المهلة المتاحة للتفاوض، حسب اتفاق ماي مع زعماء الاتحاد (31 أكتوبر/تشرين الأول الجاري) سواء تم الاتفاق على خطة الخروج أم لم يتم.. هذا الإصرار من جانب جونسون على الخروج من الاتحاد الأوروبي (باتفاق أو بدونه) أثار ضده ثائرة عدد من نواب حزبه في مجلس العموم، فصوت أكثر من عشرين نائباً من المحافظين ضد مشروع قرار قدمه رئيس الوزراء؛ للخروج من الاتحاد بحلول 31 أكتوبر، باتفاق أو بدونه، وعدم طلب مد مهلة التفاوض.. وهكذا أصدر مجلس العموم قانوناً؛ يقضي بعدم الخروج من الاتحاد الأوروبي بدون اتفاق.. وصادق مجلس اللوردات على القانون.. ولم يعد من حق جونسون - دستورياً وقانونياً - الخروج من الاتحاد الأوروبي بدون اتفاق.. وكانت هذه هزيمة سياسية كبيرة لرئيس الوزراء.. ووفقاً للتقاليد البرلمانية البريطانية، فإن هذا التصويت كان يفرض عليه الاستقالة؛ لأنه يعد تصويتاً بعدم الثقة - وإن لم يكن كذلك رسمياً - لكن جونسون لم يستقل؛ بل دعا إلى إجراء انتخابات برلمانية مبكرة، غير أن ذلك يقتضي موافقة ثلثي أعضاء البرلمان.. وبديهي أن مثل هذه الأغلبية لا تتوافر لجونسون، وإلا لما كان قد خسر التصويت.

«تعليق» البرلمان

ثم حاول جونسون الالتفاف على إرادة البرلمان؛ باتخاذ خطوة غير مسبوقة في التاريخ البريطاني، هي إصدار قرار بتعليق جلسات البرلمان لخمسة أسابيع (من 10 سبتمبر إلى 14 أكتوبر).. وحصل على توقيع الملكة إليزابيث الثانية على هذا القرار، أملاً في التأثير على مواقف أعضاء ومجلس العموم في هذه الأثناء، وأن المجلس حينما يعود للانعقاد (في 14 أكتوبر) لن يكون قد بقي على انتهاء المهلة الأوروبية (31 أكتوبر) غير أسبوعين، لن يكفيا للتفاوض، فتخرج بريطانيا! وهي خطة ساذجة وملتوية في الوقت نفسه؛ لأن القانون الذي أقره مجلس العموم لا يسمح بتنفيذها.
والأهم من ذلك أن تعليق جلسات المجلس، هو إجراء غير قانوني وغير دستوري أصلاً؛ لذلك أصدرت المحكمة العليا البريطانية حكماً يقضي ببطلان تعليق البرلمان، وبأنه «غير قانوني.. ولاغ.. ولا أثر له» ووجهت رئيسة الهيئة القضائية تأنيباً شديداً لرئيس الوزراء قائلة: إن «المشورة التي أسداها للملكة كانت غير قانونية، وتسببت في منع البرلمان من أداء دوره الدستوري».. كما قضى الحكم باستئناف جلسات البرلمان فوراً.. وهو ما حدث في اليوم التالي مباشرة لصدور الحكم (وكلات ومواقع - 24 و25 سبتمبر - وصحف 25 و26 سبتمبر).
وكان حكم المحكمة العليا صفعة قاسية لجونسون الذي أعلن أنه حكم خاطئ! وأنه يرفضه! وهو رد فعل غير مسبوق أيضاً في تاريخ السياسة البريطانية، غير أنه لم يمنع بالطبع من تنفيذ الحكم.
ومع ذلك حاول جونسون تعليق جلسات البرلمان مرة أخرى لمدة أسبوع؛ بذريعة تمكين النواب المحافظين من حضور مؤتمر حزبهم بمدينة مانشيستر (من الأحد إلى الأربعاء من هذا الأسبوع)؛ لكن البرلمان رفض بالطبع.. ويستند جونسون وأنصاره في إجراءاتهم ودعواتهم (غير المألوفة) في تاريخ الديمقراطية البريطانية إلى حقيقة أن الشعب البريطاني صوّت لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي بنسبة (52% ضد 48%) في استفتاء يونيو/حزيران 2016.. مؤكدين أن الديمقراطية تفرض احترام نتيجة الاستفتاء في جميع الأحوال. غير أن خصومهم يردون بأنه في مسألة مصيرية لبريطانيا مثل عضوية الاتحاد الأوروبي، فإن هذا الفارق الضئيل ليس قضاء مبرماً لا انفكاك منه، خاصة مع اتضاح العواقب الوخيمة التي يمكن أن تواجهها بريطانيا، والتي لم تكن في الحسبان وقت إجراء الاستفتاء.. وهو ما يؤكده تغير مواقف الناخبين من القضية، بعد أن بدأت تتضح تلك العواقب، مثل انسحاب عدة شركات وبنوك أوروبية من الأراضي البريطانية (وخصوصاً لندن).. وانخفاض سعر صرف الجنيه الاسترليني، مقابل العملات الرئيسية.. وتقلص السياحة الأوروبية إلى بريطانيا؛ بل إن رئيس شركة توماس كوك التي أعلنت إفلاسها مؤخراً ينحى باللائمة على البريكست بالذات فيما أصاب الشركة (الأهرام - 24 سبتمبر - ومواقع ووكالات).

«توثيق» كاميرون

ومنذ أيام قليلة صدر كتاب مهم لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق ديفيد كاميرون بعنوان: «من أحل التوثيق For The Record» يقول فيه كاميرون - الذي تم الاستفتاء أثناء ولايته، واستقال حينما وافق البريطانيون على الخروج- إنه قرر إرجاء الاستفتاء على أمل أن يرفض البريطانيون الخروج من الاتحاد الأوروبي، ويكون بذلك قد أسكت معارضة جناح مناوئ له في حزب المحافظين، «والحزب القومي البريطاني»، وكذلك من أجل الحصول على شروط ملائمة أكثر لبريطانيا في علاقاتها بالاتحاد الأوروبي، وخاصة في مسألة استقبال المهاجرين.. وهو ما يمكن تسميته «ابتزاز الاتحاد الأوروبي»، والتعبير للكاتب وليس لكاميرون.. ويعلن كاميرون ندمه الشديد على هذه الخطوة، كما يذكر أن جونسون بالذات - ومعه مايكل جوف - قد ركبا موجة المشاعر القومية بمناسبة الاستفتاء، ورددا أكاذيب كثيرة؛ لدعم اتجاه الخروج، منها الزعم بأن تركيا ستلتحق بالاتحاد الأوروبي قريباً، وسيجد البريطانيون أنفسهم في مواجهة عشرات الملايين من الأتراك المهاجرين.
ويعرف كل من يهمه الأمر، أن تعويل جونسون على عقد اتفاق للتجارة الحرة مع أمريكا بديلاً عن أوروبا، يصطدم بالنزعات الحمائية التي يتبناها دونالد ترامب.. وأن أوروبا لن تسهل لبريطانيا عمية الانسحاب أو تتساهل معها في شروطه؛ لأن من شأن ذلك أن يشجع دولاً أخرى على المضي في نفس الطريق، بما يهدد بانفراط العقد الأوروبي.

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"