كان الوضاعون يسيئون إلى الدين إساءة خطرة، ويشوهون بكذبهم وجه الإسلام، ويدخلون في تعاليمه ما ليس منه، لولا عناية الله، عز وجل، الذي حفظ الإسلام من التحريف والتبديل، وصان كلام نبيه، صلى الله عليه وسلم، عن أن يكون مطية لأهل الأهواء، فقيّد للأمة رجالاً أمناء مخلصين، قاوموا الوضاعين وتتبعوهم، ومازوا الباطل من الصحيح. ولولا الجهود التي بذلها الصحابة والتابعون وعلماء الأمة من بعدهم لاشتبه على كثير من الناس بعض أمور دينهم، لكثرة ما اختلقه الكذبة الوضاعون، ونسبوه إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، زوراً وبهتاناً.
ويقول د. محمد عجاج الخطيب في كتابه «السنة قبل التدوين» إن المنصف لا يسعه إلا أن يقف إجلالاً وإكباراً لجهود علماء الأمة التي بذلوها، منذ عصر الصحابة إلى أن تم تدوين السنة، في تنقيحها وتطهيرها مما أدخلته فيها يد الوضع، وإن المرء ليزداد إعجاباً لتلك القواعد العلمية الدقيقة التي طبقها العلماء، وبذلك المنهج الخاص الذي اتبعوه في سبيل الحفاظ على حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولندرك قيمة بحثهم ودراستهم وصبرهم وتتبعهم إزاء تلك الكثرة من الأحاديث الموضوعة، التي يصعب استقصاؤها وحصرها- يكفينا لهذا أن نعلم أنه قد وضع أعداء الإسلام بشهادة حماد بن زيد، أربعة عشر ألف حديث، وأن عبد الكريم بن أبي العوجاء اعترف بوضع أربعة آلاف حديث، وأقر محرز أبو رجاء القدري التائب بأنهم وضعوا أحاديث في القدر أدخلت أربعة آلاف.
ولقد وقف الصحابة والتابعون من هذه الظاهرة وقفة قوية للحفاظ على الحديث الشريف، وأصبحوا يشددون في طلب الإسناد من الرواة، والتزموه في الحديث، لأن السند للخبر كالنسب للمرء، ويخبرنا الإمام محمد بن سيرين عن ذلك فيقول: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم».
ومن نعم الله عز وجل على المسلمين أن انبث الصحابة في الأمصار والبلدان وكتب لبعضهم طول العمر ليسهموا في حفظ السنة المحمدية إثر الفتنة، وبعد ظهور الكذب على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكان طلاب العلم يسمعون من الصحابة، وإذا ما سمعوا من غيرهم أسرعوا إلى من عندهم من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليتأكدوا مما سمعوا، فكانوا يبينون لهم الغث من السمين، من هذا ما فعل ابن عباس مع ابن أبي مليكة، قال ابن أبي مليكة: «كتبت إلى ابن عباس أسأله أن يكتب لي كتاباً ويخفي عني، فقال: ولد ناصح أنا أختار له الأمور اختياراً وأخفي عنه. قال: فدعا بقضاء فيه فجعل يكتب منه أشياء ويمر به الشيء فيقول والله ما قضى بهذا عليّ إلا أن يكون ضل».
استعداء السلاطين
يشير أبي عمر يوسف بن عبد البر في كتاب «جامع بيان العلم وفضله» إلى جانب احتياط العلماء وتثبتهم في قبول الأخبار وكان بعضهم يحاربون الكذابين علانية ويمنعونهم من التحديث، ويستعدون عليهم السلطان. وكان عامر الشعبي «يمر بأبي صالح صاحب التفسير، فيأخذه بإذنه ويقول: ويحك! كيف تفسر القرآن وأنت لا تحسن أن تقرأ». وقال الشافعي: «لولا شعبة ما عرف الحديث بالعراق، كان يجيء إلى الرجل فيقول: لا تحدث وإلا استعديت عليك السلطان».
وكان شعبة شديداً على الكذابين، قال عبد الملك بن إبراهيم الجدي الثقة المأمون: (رأيت شعبة مغضباً مبادراً فقلت: (ما بك يا أبا بسطام، فأراني طينة في يده وقال: على هذا، يعني جعفر بن الزبير، وضع على رسول الله، صلى الله عليه وسلم أربعمائة حديث كذب).
وكان لابد للصحابة والتابعين ومن تبعهم من معرفة رواة الحديث، معرفة تمكنهم من الحكم بصدقهم أو كذبهم، حتى يتمكنوا من تمييز الحديث الصحيح من المكذوب، لذلك درسوا حياة الرواة وتاريخهم، وتتبعوهم في مختلف حياتهم، وعرفوا جميع أحوالهم، كما بحثوا أشد البحث «حتى عرفوا الأحفظ فالأحفظ، والأضبط فالأضبط، والأطول مجالسة لمن فوقه ممن كان أقل مجالسة». وقد قال سفيان الثوري: «لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ».
وكما وضع العلماء قواعد دقيقة لمعرفة الصحيح والحسن والضعيف من الحديث، وضعوا قواعد لمعرفة الموضوع منه، وذكروا ما يدل على الوضع في سند الحديث، وما يدل عليه في متنه.
وإلى جانب هذه القواعد، تكونت عند أكثر العلماء ملكة خاصة، نتيجة لدراستهم حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحفظه ومقارنة طرقه، فأصبحوا يعرفون، لكثرة ممارستهم هذا، ما هو من كلام الصادق المصدوق وما ليس من كلامه، وفي هذا يقول ابن الجوزي: «الحديث المنكر يقشعر له جلد الطالب للعلم، وينفر منه قلبه في الغالب» ويقول الربيع بن خثيم التابعي الجليل، أحد أصحاب ابن مسعود: (إن من الحديث حديثاً له ضوء كضوء النهار نعرفه به، وإن من الحديث حديثاً له ظلمة كظلمة الليل نعرفه بها).
هذه أهم القواعد التي وضعها جهابذة علم الحديث لتمييز الموضوع من الصحيح، كما أنهم بحثوا بدقة تامة عن الأحاديث الموضوعة، وصنفوها حتى تعرف لأهل العلم ولا تشتبه عليهم، ونلاحظ أن هذه القواعد تناولت الحديث سنداً ومتناً، فلم تقتصر جهود العلماء على نقد سند الحديث فقط دون متنه، كما ادعى بعض المستشرقين وأيدهم في ذلك بعض الكاتبين المسلمين.