صناعة بمعايير خاصة

03:49 صباحا
قراءة 9 دقائق
الشارقة: محمدو لحبيب وعلاء الدين محمود

تعد أغلب دور النشر في العالم كله مؤسسات صناعية، باعتبارها تدخلاً في دورة الربح والخسارة، وتشتغل في مجال كبير يسمى اقتصاديات الكتب، وفي هذا المجال بالطبع، تكون لغة الأرقام ومنحنياتها ومؤشراتها هي السائدة، وتتحدد قيمة كل مؤسسة بما تجنيه كل عام أو خلال نصف كل عام. إن تلك الصورة «الرقمية» الجامدة، لا تفسح المجال للكثيرين في تأمل مراحل نشر الكتب، وكيف تمر على قارئ أو عدة قراء ينتمون لتلك الدار، أو تتعاقد معهم لذلك الغرض، ويملكون إجازة الكتب أو رفضها بعد قراءتهم لها، ووفق المعايير النشرية التي تضعها الدار.
تختلف تلك المعايير من دار نشر إلى أخرى، لكنها تبدو بشكل عام مرتبطة أساساً بالقيمة المعرفية التي يقدمها الكتاب، وما إذا كان سليماً من الناحية اللغوية، وقادراً على اجتذاب القارئ من حيث موضوعه ومدى مواكبته للجديد من الأفكار التي تشغل بال المجتمعات، و أحياناً تضع لجنة القراءة لبعض دور النشر، كذلك معيار المطابقة للشروط الأخلاقية التي على الكتاب أن يحترمها، أوالشروط التسويقية التي يجب على الكتاب أن يلبيها حتى يضمن للدار مستويات ربح معينة.
ومن المعروف أن العالم العربي، يضم دوراً عريقة تمتلك «قراء» للتعامل مع أي كتاب يردها ويطلب صاحبه نشره عبر مطابعها، وقد حققت تلك الدور شهرة كبيرة اعتماداً على ذلك الأسلوب، وتلك الطريقة، لكن بالمقابل هناك دور لا تهتم بكل ذلك.
«الخليج» تفتح ملف دور النشر و«قرائها»، وتتسائل: هل تملك دور النشر الإماراتية، أشخاصاً مكلفين بقراءة الكتب التي تردها، وإجازتها أو رفضها؟ وعلى أي أساس تقييمي يتم ذلك؟ وهل تنشر تلك الدور لبعض الأسماء الكبيرة لمجرد أنها كذلك أم أنه يتم التدقيق في المحتوى بغض النظر عن اسم صاحبه؟

دقة

خالد العيسى رئيس دار نشر هماليل، يؤكد أنهم دقيقون جداً في التعامل مع النصوص التي تأتيهم للنشر، وأنهم يمتلكون لجنة قراءة مخصصة لذلك ويقول: «نحن دقيقون في هذا الإطار، ذلك أن أي نص يمر عندنا قبل النشر بمستويات عدة من القراءة، فمن جهة هناك لجنة قراءة مكونة من شخصين متخصصين وأصحاب خبرة في الجوانب الأدبية واللغوية، يقومان بقراءة النص وإجازته، ثم بعد ذلك أقوم بقراءته أنا بوصفي مدير الدار، لأطلع على مدى مطابقته لمعايير النشر والجودة التي تعتمدها الدار، وأحياناً نقوم بمراجعة لجنة القراءة كي نعمق التعامل مع النص».
ويتحدث العيسى، عن المعايير التي تحددها هماليل لنشرها فيقول: «أهم شيء عندنا أن يكون النص جيداً وسليماً من حيث اللغة، والبناء الأدبي المحكم، فنحن نحرص على مصلحة القارئ أولاً، إضافة إلى حرصنا على مصلحتنا كدار نشر، ونحترم كذلك المعايير التسويقية؛ بحيث لن نقبل بعض الكتب التي نعرف أنها لن تسوق، ولن تحظى بإقبال عليها، إلا في حالة واحدة وهي أن يكون النص مميزاً جداً في موضوعه، ومفيداً من الناحية المعرفية، ويقدم فعلاً إضافة للمكتبة العربية، عندئذ ننشره حتى ونحن نعلم أنه قد لا يسوق بسرعة، ذلك أننا نحترم قيمته الأدبية والثقافية أولاً».
ويؤكد العيسى، أن هماليل تفتح أبوابها كما تفعل أي دار نشر لمن يريد أن يدفع مالاً كي ينشر كتابه، لكنها تفعل ذلك وفق شروط تحترم فيها المعايير الآنفة الذكر، وقال: «هناك من يريد أن ينفق على كتابه، فيقوم بدفع المال لنا كي ننشر له، وبالرغم من أن مؤسستنا هي مؤسسة تجارية كباقي دور النشر في كل أنحاء العالم، لكننا لا نتخلى عن معاييرنا، فنجلس مع الكاتب بعد قراءة كتابه من طرف اللجنة المخصصة لذلك، ونقوم بتوجيهه إلى بعض التعديلات التي يتطلبها ويحتاج إليها كتابه، ونطالبه بإعادة تحريره، أو اللجوء إلى محرر أدبي إذا أراد، حتى يأتي إلينا بنص مكتمل ومطابق لشروط النشر عندنا».
ويكشف العيسى، عن أن لجنة القراءة في هماليل، تتعامل مع النصوص دون أن تعرف كاتبها ويقول: «لجنة القراءة تأتي إليها نصوص الكتب دون اسم كاتبها، وتقرأها دون أن تعرف ما إذا كان ذلك الكتاب الذي بين أيديها لكاتب كبير أو مبتدئ شاب، لذلك فهي تتعامل مع النص بحسب قيمته الأدبية، ووفق المعايير المحددة لإجازة النصوص أو رفضها».
ويضيف العيسى، أن لجنة القراءة عندهم لا تكتفي بقراءة النصوص المكتوبة باللغة العربية أصلاً، بل تمارس دورها كذلك في التعامل مع الترجمات ويقول: «في تعاملنا مع الترجمات، نأخذ نبذة عامة عن الكتاب، ويُقرأ كذلك وفق المعايير السابقة، فإذا وجدنا له قيمة أدبية نعتمده من حيث المبدأ، ثم نقوم بدراسته ككل لنرى هل يتوافق بقية معاييرنا».

استخفاف

محمد قنديل، المدير التنفيذي لدار ملهمون، يؤكد أن بعض دور النشر، تقدم محتوى يستخف بعقلية القارئ ويرجع السب في ذلك لغياب لجنة قراءة فيها ويقول: «بعض دور النشر تقدم محتويات تافهة وتستخف بعقلية القارئ، على عكس الدور التي لديها لجان قراءة، فهي بالضرورة لن تقدم محتوى عشوائياً دون مراجعة، وتحرص على احترام المتلقي الذي سيتلقى كتبها ويقرأها».
ويشرح قنديل مراحل القراءة التي يمر بها الكتاب قبل أن يجاز من دار ملهمون ويتخذ طريقه لدورة النشر فيقول: «في البداية يستلم مسؤول النشر الكتاب من كاتبه، ليقرأه بشكل أولي، ثم يحيله للجنة قراءة مكونة عادة من ثلاثة أشخاص تختلف تخصصاتهم بحسب نوعية الكتاب، فمثلاً إذا كان الكتاب رواية فلا بد أن تتشكل لجنة القراءة من أكاديمي لغوي، وروائي، وشاعر، وذلك كي تتم قراءة الرواية بالعمق المطلوب والإحاطة بكل جوانبها الإبداعية، وتمحيصها، وفي البداية نطلب من الكاتب نسخة من الكتاب، وسيرته الذاتية، ونبذة مختصرة كذلك عن كتابه، ويقدم كل ذلك للجنة القراءة، والتي يشترك معها مسؤول النشر في التقييم العام بعد قراءتها للكتاب».
ويشدد قنديل على أنهم يهتمون بالمحتوى قبل اسم كاتبه، وأنهم لا يترددون في رفض أي كتاب لا يملك الجودة المناسبة بغض النظر عن اسم صاحبه ويقول: «لقد رفضنا بعض الكتب التي لا تقدم محتوى جيداً بالرغم من بعض أسماء كتابها».

فريق عمل

تامر سعيد، مدير تطوير الأعمال في «دار كلمات للنشر»، شدد على أهمية المعايير والجودة في عملية النشر، وأوضح أنهم يعتمدون على لجنة قراءة وفريق تحرير كامل يقوم بعملية التنقيح الأولية بحسب طبيعة الكتاب، فالمؤلف التعليمي يخضع للمراجعة والاطلاع من قبل شخص متخصص، إضافة إلى فريق التحرير، وكذلك في بقية المجالات، فهنالك مدير تحرير مسؤول، وتستعين الدار كذلك بأشخاص من خارج الدار إذا لزم الأمر.
ويرى سعيد، أن الكتابة الإبداعية تختلف فيها الأذواق، ولا يتفق حولها القراء، لذلك هنالك كتب تصيب النجاح فيما تخفق أخرى، فمن الواضح أن هنالك صعوبة في وضع معايير للمؤلفات الأدبية، بالتالي يكون هنالك نوع من الحد الأدنى يتفق عليه داخل كل دار على حسب توجهاتها ومنهجها في هذه العملية، وأحياناً تخضع للذوق الشخصي للجنة القراءة، لكن بشكل عام فإن الأشخاص الذين يتم اختيارهم، ليكونوا ضمن فريق القراءة لهم من الخبرة والتخصصية، ما يمكنهم من التوافق على حد يراعى فيه النواحي الجمالية والفنية خاصة في مجال المؤلفات الأدبية والإبداعية.
ويلاحظ سعيد، أن أذواق القراء صعب التكهن بها، فحتى في مجال الكتب المترجمة، نجد أن بعض المؤلفات تنجح في الانتشار بلغتها الأصلية، وتفشل في نسختها المترجمة والعكس كذلك صحيح، ولكن بصورة عامة، فإن دور النشر تراعي نشر المؤلفات التي تتوفر فيها شروط الكتابة المحددة في جميع المجالات.
غير أن سعيد، يؤكد وجود المعيار التجاري، فهو بات يدخل في كل صناعة، فالمردود المالي له أهميته عند الدور الخاصة التي تبتغي الربح، بل أن القيمة المادية تمثل عند بعض الدور جزءاً مهماً من عملية اتخاذ قرار النشر، لكن سعيد يشدد على أن دار «كلمات» لها فلسفة خاصة فيما يتعلق بمعايير وجودة النشر، فهي ترى أن نشر المواد الجيدة التي تجد اتفاقاً من قبل لجنة القراءة والتحرير هي بمثابة محفز لهم، فالأفضل سيأخذ انتشاراً يترجم إلى أرباح، لذلك فالدار يمكن أن تضحي بالجانب التجاري من أجل أن تلقى المادة الجيدة حظها من الانتشار، ولكن هذا لا يعني أن كل الدور تتبع هذا المنهج، فهنالك بالفعل من يضحون بالقيمة الفنية من أجل الكسب التجاري، لكن الذكاء والمهنية يتطلبان خلق موقف متوازن في إنتاج هادف يترجم لأرباح.

معادلة

من جانبه فإن محمد نور الدين الشاعر والناقد ومؤسس دار نبطي للنشر، يؤكد وقوفه بنفسه وإشرافه على كل المهام المتعلقة بالمراجعة للمحتوى المتعلق بالمادة التي يراد نشرها، إلى جانب لجنة تتشكل من ثلاثة أشخاص مختصة بقراءة المادة المقدمة للنشر ومراجعتها ونقدها؛ حيث تدقق الدار وتركز على مسألة التمحيص والقراءة المتأنية باعتبارها المسؤولة عن كل كلمة تنشر، فالمحتوى الذي سيعانق جمهور القراء لابد أن يتمثل ثقافة المجتمع وقيمه، وكذلك أن يكون صالحاً للبيع للجمهور، فتلك هي المسائل المنوطة بالدار، بينما هنالك مسؤوليات يتحملها الكاتب وحده، فلابد من موازنة تراعي حق الكاتب وحريته، وفي ذات الوقت تأخذ في الاعتبار جمهور القراء الموجه له الكتاب.
ويتناول نور الدين، جانباً من تجربته مع بعض دور النشر؛ حيث أكد أن مقياسها الأساسي في قبول نشر الكتاب أو المؤلف هو المعيار التجاري البحت، والجدوى المادية من ورائه، فهنالك أعمال ذات قيمة علمية وفنية وأدبية ومعرفية عالية، لكن الكثير من الدور ترفض نشرها، وذلك لأن عائدها المادي سيكون ضعيفاً، بالتالي قيمتها التجارية بلا جدوى، وهذا الأمر له عواقب وخيمة على المدى الطويل؛ حيث سيؤدي إلى تراكم رفوف المكتبات بالكتب والمؤلفات ذات القيمة المنخفضة، بينما تنزوي الأعمال الجيدة بعيداً، ولهذا الأمر، بطبيعة الحال، له تأثيره السيئ على أجيال من القراء الذين سيجدون مثل هذه الأعمال في متناول اليد و ستوثر في ثقافتهم ومعارفهم.
لكن نور الدين، يشير كذلك إلى أن هنالك مؤلفات ليست ذات قيمة تجارية، بالرغم من ثرائها الفني والأدبي، لكن على الرغم من ذلك تقوم دور النشر بطباعتها ونشرها، وذلك لأنه من المتوقع أن تكون لها قيمة فيما بعد مثل أن تفوز بجائزة ما، أو تجد تقديراً مميزاً من المؤسسات الثقافية، أو تلقى حظها من الانتشار بمرور الزمن، الأمر الذي يعود للدار بالمنفعة التجارية، وإن كانت على المدى البعيد.
ويؤكد نور الدين، أن ل«نبطي» منهجاً خاصاً تتبعه في عملية النشر؛ حيث هنالك أولويات أهمها دعم التجارب الجيدة، والتركيز على نشر الأعمال التي تشكل إضافة نوعية إلى المكتبة العربية، وتحافظ على الهوية الوطنية وتعزز من التبادل الثقافي بين الحضارات الإنسانية، وكذلك توسيع القاعدة الجماهيرية للقراءة بتقديم أغراض متنوعة، ومواضيع متجددة نحاول الوصول بها إلى كافة شرائح المجتمع، وأخيراً الاهتمام بالنشر الورقي وإيجاد الشراكات التجارية والتسويقية التي تضمن بلوغ هذه الأهداف. وذلك هو المعيار الذي يحافظ على القيمة الاسمية للدار وسمعتها؛ حيث إن من الضرورة من حيث المهنية والسمعة لأي دار نشر، أن تتوفر المادة المعدة للنشر لديها على قيمة فنية، ومستوى معين من القبول لدى اللجنة التي تتطلع على المواد.
لكن نور الدين، يعود ليؤكد أن دور النشر بشكل عام تتجاوز في بعض الأحيان القيمة الفنية والجودة والمعايير، وذلك لأنها لا تستطيع أن تتحمل الخسائر المادية، فالدور الحكومية وحدها هي التي يمكن أن تتحمل الخسارة المالية، لأنها مدعومة ولا تستهدف الربح عادة.

نقاشات

مريم الشناصي، مؤسس دار الياسمين للنشر والتوزيع، فتؤكد حرية الكاتب في اختيار موضوعه مع مراعاة جودة العمل من حيث سلامة اللغة وبعض المسائل الفنية؛ حيث تجري أحياناً نقاشات مع المؤلف حول بعض النقاط في المادة التي تريد الدار نشرها؛ بحيث تتم عملية التعديل والتطوير بما يتناسب مع النشر ومنهجية كل دار.
وتدفع الشناصي، بسؤال حول عمل لجان القراءة، وهل من الممكن أن تشكل نوعاً من الحجر على حرية الرأي والتعبير لدى الكاتب؟ وتؤكد أن جميع المؤلفات التي قامت دور النشر بطباعتها وتوزيعها وصارت مادة للبيع، مرت بلجنة قراءة ومراجعة، حتى إن كان المضمون ضعيفاً، وذلك لأن هذه اللجنة وجدت أن بعض الأعمال ذات مردود مادي وتجاري ويجد قبولاً عند شريحة من القراء يجب احترام رأيها وذوقها، فما يجده البعض هزيلاً يجد أقبالاً من آخرين، لذلك فإن لجنة القراءة قد تجيز ما هو ركيك لأجل العائد المادي.
غير أن الشناصي، أكدت أن دار الياسمين، تحرص على اختيار منشوراتها وإصداراتها؛ بحيث تكون ذات قيمة أدبية وفكرية بشكل يثري المكتبة الإماراتية والعربية؛ حيث يتم اختيار الموضوعات التي تهم فئات المجتمع، وتعبر عن المشهد الثقافي المحلي مع مراعاة قيم وعادات وخصوصية مجتمعية لابد أن تتوافق معها المادة المنشورة.

عين فاحصة

سيف الجابري، صاحب دار نشر، أكد وجود لجنة للقراءة في الدار، تنظر في العمل قبل نشره، وتعطي الملاحظات حسب الشروط الموضوعة من قبلهم للنشر، ولأن الدار متخصصة في علوم اللغة واللسانيات، فقد تطلب ذلك ضرورة وجود عين خبيرة قارئة تفحص وتمحص، وأوضح الجابري، أن أعمال هذه اللجنة تقوم بها مجموعة من الأكاديميين وهي التي تضع التصويبات وتوجه الملاحظات المحددة إلى المؤلف ليقوم بما يطلب منه من تعديلات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"