اعتزال الناس

02:12 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. عارف الشيخ

عندما تكثر الفتن والقلاقل، يصبح الرجل الحليم حائراً من غير شك كما ورد في الحديث، لذلك فإن بعض الناس يرجح كفة الاعتزال فيعتزل المجتمع.

مثل هذا الاعتزال لا بد أن يكون له وجهان وجه إيجابي وآخر سلبي، والآثار التي وردت يفهم من بعضها أن مخالطة الناس والصبر على أذاهم هو الأفضل.
ويفهم من بعضها الآخر، أن الناس إذا فسدوا في آخر الزمان، فإن مخالطتهم تزيد الموقف سوءاً والفتنة اشتعالاً، لذا فإن بعضهم يقرر الاعتزال كحل.
وإننا نجد بالفعل أحاديث مثل حديث أبي إدريس الخولاني أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول: «كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني».
فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال عليه الصلاة والسلام: نعم وفيه دخن.
قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هدي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله صفهم لنا.
قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟
قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك». (رواه البخاري ومسلم).

أقول: إن مثل هذا لحديث ليس خاصاً بعهد الصحابة والتابعين، فالفتن بدأت منذ عهد عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وستستمر إلى قيام الساعة.

وقد قال ابن حجر رحمه الله تعالى في «الفتح الباري» قولاً واضحاً عندما قال: «متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزاباً، فلا تتبع أحداً في الفرقة، واعتزل الجميع إن استطعت، خشية أن تقع في الشر، ومتى وجدت فرقة مستقيمة على الحق، لزمك الانضمام إليها لتكثير سوادها، والتعاون معها على الحق، لأنها والحال ما ذكر، هي جماعة المسلمين».

نعم.. وورد أيضاً: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن» (رواه البخاري).
ومثل هذه الأحاديث يفتح باب الرخصة أمام المسلم البصير، لأن الحكمة مطلوبة، والجنة لا تطلب بفتح باب النار على قوم أبرياء، فتوردهم المهالك بحجة أنك طالب الجنة وخاطب حور العين.
والجنة وإن كانت حفت بالمكاره، إلا أن الله تعالى يقول: فاتقوا الله ما استطعتم، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
وأما أحاديث مثل: «إن المسلم إذا كان يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» (رواه الترمذي).
فإنه كما قال ابن حجر يحبس نفسه عن المكروه والشكوى وينتظر الفرج، ويصبر على أذاهم، أي ما يصل إليه منهم من الأذى، وليس في الحديث دليل على أن اعتزال الناس شر من المخالطة، فالاعتزال ينبغي أن يكون نابعاً عن حكمة، كما أن المخالطة ينبغي أن تكون لحكمة.
فالتعقل مطلوب، وليس من الدين أن ألقي نفسي أو ألقي غيري في الهلاك، والحديث يقول: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحب لغيره ما يحب لنفسه».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

مؤلف وشاعر وخطيب. صاحب كلمات النشيد الوطني الإماراتي، ومن الأعضاء المؤسسين لجائزة دبي للقرآن الكريم. شارك في تأليف كتب التربية الإسلامية لصفوف المرحلتين الابتدائية والإعدادية. يمتلك أكثر من 75 مؤلفا، فضلا عن كتابة 9 مسرحيات وأوبريتات وطنية واجتماعية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"