البادئ أظلم

02:27 صباحا
قراءة 3 دقائق
حينما كبرنا بدأنا نعي الكثير مما تعلمناه في طفولتنا، واتضح أثر هذا العلم في ممارساتنا الحياتية، وفي ما نشاهده من أفعال غيرنا، فقد تعلمنا في طفولتنا أن العلم في الصغر كالنقش في الحجر، وربما لم نكن نعي كل ما تعنيه هذه العبارة، لكن سجعها الجميل رسخها في ذاكرتنا وترك للزمن مهمة إيصال المعنى الأعمق لها .
في بداية شهر رمضان حضرت مشهداً تصويرياً يصوّر حياً ومباشراً من مسلسل حياتي، رأيت ذلك الرجل الكبير المتعلم يداعب حفيده ابن الثالثة تقريباً، وكانت المداعبة ببعض العبارات مثل '' يا وسخ، يا حمار، اخرس'' واستغربت أشد الغرابة من هذا التصرف، ومع أنها أتت بطريقة ملاطفة ومداعبة منه لطفل يحتاج من الجميع إلى أن يعاملوه بالرحمة، إلا أننا نجهل كثيراً أثر ما نقوله لهؤلاء الأطفال، فربما بعد سنين من التعود على مثل هذه العبارات تكون ملازمة له في حياته، ولا تستطيع شهادات العالم مهما كبرت في أن تصحح هذا الاعوجاج الذي بدأ معه منذ الصغر، وسيتعود على الشتم والسباب، فنحن لم نتعلم ماذا تعنيه هذه المرحلة العمرية، ولم نتفهم ما عرفناه وسمعناه في طفولتنا أيضاً في مسألة تربية الأطفال على الصلاة من خلال أمرهم بها وهم أبناء سبع سنوات وضربهم عليها وهم أبناء عشر والتفريق بينهم في المضاجع .
كبر مثل هذا الطفل، وأصبح شاباً يخرج ويتعامل مع المجتمع، وحصل على شهادة دراسية عالية، لكنه بقي بتلك العقلية التي ترسخت في ذاكرته الطفولية، ولم تستطع كل تلك المعارف من مسح آثارها السلبية من ذاكرة عقله، وفي أبسط المواقف تجد تلك الذاكرة تنشط بقوة، فيبدأ بتوظيفها في الرد بالكلام الجارح الحارق مثل البراميل المتفجرة على من أزعجه بكلمة من دون قصد، أو أخطأ عن غير عمد .
وفي مشهد آخر من تلك المشاهد الكثيرة التي نراها تصور مباشرة في حياتنا مشهد رجل لم يستطع شهر رمضان بجلاله وعظمته وهيبته من أن يربط لسانه، ولم تقدر عليه هيبة المسجد وحرمه الداخلي الذي وقف فيه، ولم تنفع محاولات المصلين من تخفيف ثورته العارمة التي استخدم فيها أنواعاً فتاكة من الكلمات، حتى وصل إلى اللعن، ولو كان بإمكانه سب ولعن ملابس خصمه الذي أمامه للعنها، لأنه تعود منذ الصغر على هذا .
عدت بذاكرتي إلى ذلك الرجل الذي كان يلاطف حفيده بعبارات ليست في سياقها الأدبي، فخفت عليه من أن يلحقه معنى الشاعر الجاهلي المسلم معن بن أوس المزني الذي يقول:
فيا عجباً لمن ربيتُ طفلاً
                 ألقمهُ بأطرافِ البنانِ
أعلمه الرماية كل يومٍ
             فلما اشتد ساعدهُ رماني
والخوف ليس من أن يتجاهله هذا الطفل حين يكبر، فربما عامله معاملة حسنة، لكنه ربما في ذات الوقت يعمد إلى سبه وشتمه وهو بعيد عنه، ويرتد على تربيته بما قاله معن بن أوس بتصرف:
أعلمه الشتائم كل يومٍ
         فلما اشتد ساعده هجاني
فهو حين يشتم أب أو أم غيره فإن هذا الشتم يعود إلى أبيه وأمه وينالهم نصيب وافر من اللعنات والشتائم، وهذا ما تعلمناه أيضاً من ديننا ومن المعلم الأول للأخلاق الحسنة العالية وهو يقول: ''إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه، قال يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه وأمه'' .
وهذا هو ما سينالونه من هذه التربية ولسان حالهم كما يقول المثل "تأتيك الشتائم وأنت نائم" فنومهم السابق عن خطر ما أسمعوه لهذا الطفل أذكى تلك العبارات في الكبر، فارتد بأسلحتهم النارية عليهم، وكما يقال: البادئ أظلم .

محمد عبدالله البريكي
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"