المعاجم مناجم

04:46 صباحا
قراءة 3 دقائق
يمثل الإعجام في اللغة عقبةً أمام الفهم لفكرة أو نص أو مفردة ربما تكون واسطة العقد في الجملة، وهذا الإعجام قد يؤدي إلى انفراط العقد وضياع المعنى .
وقد ورد في التراث العربي ما يفيد أثر الكلمات المتقعرة في اللغة التي تحتاج إلى المعجم من أجل تفسيرها، ومن هذه النوادر التي ذكرها الدكتور نايف معروف في كتاب "طرائف ونوادر من عيون التراث العربي" أنه دخلَ أبو علقمة النحْوي على الطبيب فقال: إني أكلتُ من لحوم هذه الجوازل، فطسئت طسأة، فأصابني وجع بين الوابلة إلى دأية العنق، فلم يزل يربو وينمي حتى خالطَ الخلّب، فألمت لهُ الشراسف . فهل عندَك دواء؟ فقالَ له الطبيب: خذ خربقاً وشلفقاً وشبرَقاً فزهزقهُ وزقزقهُ واغسلهُ بماء روث واشربهُ بماء الماء . فقالَ أبو علقمة: أعد علي ويحك، فإني لم أفهمكَ . فقالَ الطبيب: منْ أقلنا إفهاماً لصاحبهِ؟ وهل فهمتُ منك شيئاً مما قلت؟ .
ومن الطبيعي أن نجد في كل لغة من لغات العالم ما يصعب إدراكه من مفردات قد يؤدي عدم فهمها إلى ارتباك في الفهم، أو إلى تحريف في المعنى الصحيح المرتبط بسياق الجملة، فعجمة الكلمة وإبهامها تعد إشكالية كبيرة في بعض الجمل، ولذلك كان من الضروري أن يكون هناك جهد كبير من أشخاص متخصصين في علوم اللغة ومعانيها لتسليط ضوء يكشف ظلمات المعنى ويجلي عنها غبش الفهم .
واعتبر العرب هذا الجهد جزءاً من التراث العربي العريق المدلل على الحضارة والثقافة وامتداد جذورها، ولذلك أولوه أهمية كبيرة، فظهرت المعاجم العربية التي يرجع إليها كل من تاه به الطريق للوصول إلى مسار صحيح يسلكه للخروج من أنفاق الإبهام وضبابية الإدراك .
والمتتبع للمعاجم العربية يجد أن من قام بالاشتغال على هذا الفن المهم في مسيرة الكشف عن مكامن المعنى قد بذل جهداً كبيراً سرق منه راحته، وقض مضجعه، واقتطع ضريبة من صحته، وسلط الوقت عليه سيفه، وجعله في سباق سريع مع عقرب الساعة متجنباً لدغته التي تؤدي إلى نهاية العمر الافتراضي للطاقة التي يبذلها الإنسان في الجهد والكفاح والمتابعة، وشهد الغرب للعرب أسبقيتهم على سواهم من الأمم بهذا الجهد الذي بذلوه، ويقول المستشرق الألماني "أوجست فيشر" في سياق حديثه عن الحضارة العربية والإسلامية وشهادته على تفوّق العرب: "وإذا استثنينا الصين فلا يوجد شعب آخر يحق له الفخار بوفرة كتب علوم لغته، وبشعوره المبكر بحاجته إلى تنسيق مفرداتها بحسب أصول وقواعد غير العرب" .
ويظهر جلياً أهمية المعاجم حين يشكل المعنى على ما كان من كنوز تراثية تمثل النتاج المعرفي والأدبي، ففي الشعر مثلاً يتضح أن الأوائل من الشعراء أمثال شعراء العصر الجاهلي لهم مناخاتهم اللغوية التي أصبحت غير متداولة في عصرنا الحالي، ولذلك لا بد من الرجوع إلى معاني الكلمات للوصول إلى فكرة الشاعر وما رمى إليه من قصد، فمن دون فهم لغة القصيدة سيخفت جمالها وتركن في مساحة مظلمة من الذاكرة قد تؤدي إلى موتها بين أرفف الكتب القديمة المغبرة، وأدرك هذا الأمر بعض المحققين لبعض الدواوين الشعرية، فأوجدوا الهوامش من أجل التيسير على القارئ ليفهم معنى النص ويتذوقه، وكثيراً ما يحتاج الباحث أو القارئ إلى المعجم لمعالجة سرد لا يقف أحد عند نقطة يحتار في الكيفية التي سيتم من خلالها تجاوزها إلى نقطة أخرى مضيئة .
ولكن في ظل وجود وسائل البحث الإلكترونية التي لا ننكر أنها سهلت الكثير من الأمور، هل انتهى دور المعجم الورقي وحل محله الإلكتروني؟، والحقيقة أن المعجم وغيره من الكتب القيّمة لا بد أن تبقى حاضرة مقدرة في مكتباتنا، فهذا الفضاء الإلكتروني قد يتعطل في فترة نحن في حاجة إلى معلومة لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق الكتاب الورقي، فهو المرجع الذي يوثق جهداً أصبح من كنوز التراث التي استخرجها الأوائل من مناجم الحياة والتجربة والبحث .

محمد عبدالله البريكي
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"