خولة الضوء

06:29 صباحا
قراءة 3 دقائق

جميلة هي الحياة، وجمالها في الأمل الفطري الذي جعله خالق البشر في نفوسهم، والذي يتطلعون من خلاله إلى حلم بديع معشب بالأمنيات العريضة والأحلام الكثيرة في توفير حياة مريحة، ولولا هذا الأمل الذي جعله الله لنا متنفساً، لمتنا مما يصيبنا في هذه الحياة من أمور لا تأتي على ما نحب ونهوى، ويقول شاعر عن هذا الأمل:
أأملُ أن أحيا وفي كل ساعةٍ
               تمر بي الموتى تُهزُّ نعوشها
وهل أنا إلا مثلهم غير أن لي
             بقايا ليالٍ في الزمان أعيشها
لكن قد يصعقك نبأ الموت حين يأتيك على حين غرة وأنت نائم أو منهمك في عملك أو تقود سيارتك أو غيرها، وخصوصاً إذا كان هذا النبأ يخص بعضاً من أقاربك، فالموت نهاية لحياة قد تقضيها مع هذا الشخص، ترى معه الحياة بأمل، وتعايش في ظل وجوده تفاصيلها من ضحك وحزن وألم ووجع وانكسار وطموح، ثم في لحظة تشعر وكأن المستقبل مع هذا الشخص بكل ما فيه قد انتهى وبلا رجعة، فالأموات لا يعودون إلى حياتنا .
وقد كثرت في هذا العالم خيم العزاء، وأصبح معظم من يأتي إلى عزاء من مات يهيئ نفسه لحدث مماثل طال الزمان أو قصر .
وقد اختلفت أسباب الموت في عالمنا الدموي المجنون، وصار الموت في بعض الدول حدثاً عادياً يستقبله الناس برحابة صدر، وصار ديدناً يعيشون عليه، فلم تعد لديهم تلك الرهبة التي يشعر بها من سبق في ظل الهرج والمرج المنتشر كالوباء القاتل، والموت طريق يسلكه الأحياء بلا استئذان منهم، فلا علاج يفيد مع هذا الشبح الجاثم على الأرواح، وهو حين يأتي لا يستثني أحداً، مريضاً ولا صحيحاً، ومهما طالت سلامة الإنسان فإنه لا بد أن يفارق أصحابه وأحبابه وعالمه الذي رسمه لنفسه ومن معه، فكما يقول زهير بن أبي سلمي:
كلُّ ابنِ أنثى وإن طالت سلامتُهُ
               يوماً على آلةٍ حدباء محمولُ
هناك حياة أخرى سيصل إليها كل حي وهو يعبر على جسر حياته وسنين عمره، تلك الحياة هي الباقية لمن آمن بها، وهذا الإيمان يجعله يفكر في التصميم الذي يريده لواجهة ذلك السكن، وما يتطلبه من أثاث وديكور وأسباب رفاهية يدفع ثمنه من العمل الذي يتعب فيه، ليكسب في النهاية ذلك المكان الذي أراده لنفسه، وما أجمل المعنى الذي نتغنى به ونقول:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها
                 إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخيرٍ طاب مسكنهُ
                     وإن بناها بشرٍّ خاب بانيها
ولهذا الزائر المزعج والصاعق أحياناً أسباب مختلفة، فالحروب تحصد أرواحاً كثيرة، وتخلف آلاماً وجراحاً كبيرة، والسيارات التي هي في الأساس نعمة تختصر على الإنسان مسافات زمنية طويلة، وتعينه على قضاء حوائجه قد تكون مهلكة مدمرة وتخلف البشر بين ميت ومصاب، والطائرات وتحطمها هي شكل آخر من أشكال النهاية، لكنها ومع هذا الاختلاف تلتقي عند نقطة اللاعودة إلى الحياة، والانتقال إلى عالم آخر تحمل فيه الجثث على آلة حدباء إلى مصيرها المحتوم في مساحة لا تشبه هذا الفضاء الواسع .
وللشاعر الأول حكمة في الموت وتعدد أشكاله، وهذه الحكمة تهجاها الطلبة منذ نعومة مراحلهم الدراسية يقول فيها:
ومن لم يمت بالسيف ماتَ بغيره
              تعددت الأسباب والموتُ واحدُ
وما أجمل الشعر حين يأتينا معزياً ليغسل شيئاً من الألم المتراكم بالدخان والغبار على أرواحنا المكلومة .

اشتعال أخير:
أختاه . . خولةُ . . نفثُ الضوء ما رحلت
إلا لتكسر نفساً طالما شهقت
أختاه . . لا توجعيني إن في نظري
ماءً من القلب لو يجري بها غرقت

محمد عبدالله البريكي
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"