شكراً البرازيل

02:41 صباحا
قراءة 3 دقائق
"بذا قضت الأيامُ ما بين أهلها/ مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائدُ" . . هكذا قالها الشاعر العربي منذ سنين، فبينما وصفتها وسائل الإعلام البرازيلية بأنها "الكارثة الوطنية في البرازيل" اعتبرتها الصحف الألمانية من عجائب الدنيا السبع، تلك السباعية الألمانية في الشباك البرازيلية وفي عرين الأسد وعقر دار المنظم للحدث الرياضي العالمي الأكبر، هذا الحدث الذي لن ينساه البرازيليون، والذي أضاف لهم عذاباً نفسياً آخر كانوا قبله في ثورة داخلية مع الفقر وآثاره الاجتماعية، وربما كانوا يعولون على الفوز بالكأس لينوموا معه جراحاتهم لفترة من الزمن، لكن سيبقى اليوم الثامن من شهر يوليو من عام 2014 يوماً أسود بالنسبة إليهم .
البرازيل بلد الدهشة والمتعة والجمال والفن الكروي، بلد يتباهى بتاريخ ناصع ومشرق في الكرة المستديرة الساحرة التي رقّصت العيون والقلوب مع رقصتهم المشهورة "السامبا"، فهي صاحبة خمس نجمات في هذه الكأس، ومنها ملك الكرة الساحر "بيليه"، وقدمت سحرة كباراً أمثال ريفيلينو، وغارينشيا، وزاجالو، وسقراط، وروماريو، ورونالدو، وزيكو، وفالكاو، وإيدير، وجونيور وغيرهم .
دخل البرازيليون هذه الكأس الأخيرة بأمجادهم السابقة العريضة، وكانوا يعوّلون على هذا التاريخ وعلى الحاضنة الشعبية "الجمهور" والأرض التي تقام عليها الفعاليات، دخلوا بعدد جيد من اللاعبين، لكن هذا العدد ليس لديه مقومات صنع الدهشة، فانهار كله انهياراً ليس مفاجئاً لمن يتابع مستوى منتخب البرازيل في السنوات الأخيرة، ولا يشبه هذا الفريق المنهار أبداً أولئك الذين صالوا وجالوا على العشب الأخضر عام ،1982 وهو المنتخب الذي قدم سحراً كروياً لا ينسى، مع أن هذا المنتخب لم يفز بكأس العالم، لكن الكرة بقيادة صانع المهارة المدرب "تيلي سانتانا" كانت ترقص على كعب "سقراط"، وترتمي على صدر "فالكاو"، وتلتصق بقدم "إيدير" المراوغ مثل العاشقة التي لا تريد مفارقة حبيبها، وتنطلق مع "جونيور" لتعبر دفاعات الخصم وتدك معاقله، ولا يزال عشاق الكرة يذكرون أسماء لاعبي هذا المنتخب، وحركاتهم الساحرة الممتعة .
البرازيل تعلمنا الجمال حتى من خلال هزيمتها الأخيرة، تعلمنا أن التاريخ وحده لا يصنع الجمال، وأن المحافظة على الإنجاز أهم من الإنجاز نفسه، لم نتعلم من ابن الوردي في لاميته المكتنزة بالحكمة مثلما تعلمنا من منتخب البرازيل، ولم نلتفت إلى ما قاله هذا الشاعر:
لا تقلْ أصلي وفصلي أبداً
         إنما أصلُ الفتى ما قد حصل
علمتنا البرازيل أننا حين نتباهى بالمعتصم، فيجب أن نكون كلنا المعتصم، فمثلما صنعت هذه الدولة الإنجازات بتضافر جهود السحرة على المستطيل الأخضر، يجب أن تكون النفوس مهيأة للحدث الذي تنهض من خلاله لتسجل لها تاريخاً جديداً يربطها بتاريخها العريق، وأن ترتقي الأمم بأخلاقيات عالية وبوحدة لا تخرج على نسيج مجتمعها وانتمائها لتتشرذم وتتطرف .
علمتنا البرازيل أن العبرة ليست بالعدد إنما بالعدة، فكثرة الفعل لا تعني الجودة أبداً، والبحث عن المبدع الحقيقي في أي مجال وتقديمه أفضل من تقديم خدمات لمتسلقين على أكتاف الفعل الأدبي الجميل .
ولا ننسى أن نشكر انكساراتنا المتكررة مثلما تشكر البرازيل ألمانيا التي ربما تعيدها إلى وعيها، وأن تتخلص من عقدة الانبهار والتباهي بالتاريخ العريق، فالكف الذي يصفع قد يكون أكثر فائدة، ولتستعد البرازيل من خلال أربع سنوات مقبلة وتأهل قدراتها وترممها بما لديها من واقع وأسماء تقدم الجمال الحقيقي، ففي المراجعة والعودة إلى الذات فوائد كثيرة، وهكذا قضت الأيام ما بين أهلها لتصنع من مصائبهم إنجازاً جميلاً .

محمد عبدالله البريكي
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"