صمود الثقافة اليمنية

00:42 صباحا
قراءة 3 دقائق
مثلما أثرت الحروب والصراعات القبلية والسياسية المسلحة عبر التاريخ في سعادة اليمن التي وصف بها، وقضت على جمالياته المختلفة، وأتت على الحجر والمدر، وشوهت صورة تاريخه عبر تدمير كثير من آثاره ومعالمه الحضارية الشاهدة على شموخ أهله ومكانتهم، وأثرت في نموه الاقتصادي والاجتماعي، فإن الحرب كذلك أثرت في الثقافة سلباً وإيجاباً، فالثقافة ابنة المجتمع التي تحاول دائماً وأبداً أن تكون في أبهى صورها، وأن تخرج للعالم بهيئة أنيقة مبهرة، ومن أجل المحافظة على هذه الصورة فإنها تحاول جاهدة أن تزيح عن صدر أهلها الهموم والكآبة والأوجاع والانكسارات وويلات الدمار كالبذرة التي تزيح الرمل عنها لتخرج وهي تسبّح الله وتتنفّس حياة جميلة تؤتي أكل الخير وثمار العطاء.

في زمن الحرب يتجلى أدب المقاومة، وتخرج ثقافة مختلفة تتناغم مع الواقع وتجسده، وتسجل لحظاته التاريخية، وتدون ما يتمخض عن الصراع من وقائع ومتغيرات، وهي بكل تأكيد تعبر عن أفكار مختلفة، وانتماءات متعددة، وولاءات متقاطعة، لكن ما يجمع كل هذا التشظي هو الوطن ومعاناته خلال الحرب، وكلما اشتد الصراع وطال أمد القتال ازدادت المعاناة واتسعت مساحة التشظي لدى المثقفين، وهذه المعاناة على الرغم من السوء الذي تظهر به ويحيط بها، ومن الويلات التي قد تصيب كتابها أو تلحق الأذى بمن يرتبطون بهم، إلا أن هذا الغليان شبيه باحتراق حطب العود الذي سيطيب المكان ويعطره بنتاج أدبي بديع يبقى شاهداً حياً على الحدث تتناقله الأجيال سنين طويلة.
ومن خلال تواصلي الثقافي المستمر مع العديد من الأصدقاء المنتمين للأدب في هذا البلد الذي يرزح تحت وطأة القصف، وتتعرض قراه ومدنه ومحافظاته إلى سيل من القذائف التي تنزل كالصواعق والمطر على البشر والحجر، ومد خط من الحديث عبر وسائل التواصل المختلفة التي تخترق الحدود وتدخلها بسهولة من دون الحاجة إلى الوقوف في طابور طويل على مداخل الدول، أو المرور في طرقات خطرة يقف فيها المسلحون، وجدت أنهم لا يتركون شاردة ولا واردة إلا ويتحدثون عنها كل حسب اختصاصه، فشدة الحرب جعلت من شدة الحوار وحدة الاختلاف تتسعان، ونتج عن ذلك العديد من الرؤى والأفكار التي تتجاذب وتتقاطع وتلتقي أحياناً لتقدم عدة معطيات لتكوين مشاهد ثقافية تهندسها أفكار تتشكل حسب معطيات الميدان ورؤية الكاتب وقناعاته، وبرز دور الشعر كثيراً بصفته أهم المتحدثين لمكانته التاريخية ودوره المتجدد عبر التاريخ، فظهرت قصائد كثيرة لشعراء يمنيين تستحق أن يلتفت إليها، وأن تجمع في كتاب يوثق هذه المرحلة المهمة من تاريخ هذا البلد الذي عانى منذ زمن بعيد ويلات الحروب.
إن معاناة المثقف اليمني لا تقتصر على الخوف والرعب من وصول قذيفة أو مرور رصاصة أو سقوط صاروخ أو دمار منزل أو فقدان أرواح، فهي على الرغم من أنها تشكل جزءاً كبيراً ومهماً في مسير هذا التعب، إلا أن تعبه الآخر هو انقطاع السبل دونه ودون الخروج من نطاق وحدود الوطن لنقل تلك المشاهد والصور إلى الآخرين، هذا الواقع يضع معاناة أخرى على كاهل المثقف اليمني ويؤرق مضجعه، ومثلما يتمنى أن تنتهي الحرب وتضع أوزارها، فإنه يتمنى أن ينتهي الحصار عليه وتفتح الحدود بواباتها له لينطلق كالطائر من قفص الخوف إلى فضاء الحرية، وينهض من تحت وطأة ما يتساقط عليه من نيران كما ينهض الفينيق من تحت الرماد لتبدأ حياة جديدة بما دونته ووثقته أفكار مثقفي وأدباء اليمن.


محمد عبد الله البريكي

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"