«أَخلَقَةُ» الحرب أم عقلنتها؟

02:08 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الإله بلقزيز

ليس بالمرء حاجة إلى التذكير بأن العنف بما هو فعل مرتبط بنشاط النظام العصبي في الكائن الحيواني، بما في ذلك الإنسان، وأن استثارة نشاط العنف فيه قد تأتي من مصادر عضوية أو نفسية، وأن ذلك أشبع بحثاً ودرساً في الميادين العلمية المتخصصة. غير أن الذي لا مرية فيه، أن تمتع الكائن الإنساني بنظام عصبي متطور، وحيازته القدرة الذهنية على السيطرة على انفعالاته وغرائزه (القدرة العقلية)، جعلته يتفرد بالاقتدار على كبح جماح منازعه إلى الإفصاح المجرد عن عنفه، وبالتالي، كبح غريزته الدافعة إلى ذلك.
على أن القدرة العقلية أو العاقلة هذه ليست معطى طبيعياً فحسب، خص به الإنسان أو قُل حظي بوجود استعدادات لديه له؛ بل هو أيضاً من مفاعيل الاكتساب التي تدخل ظواهر تاريخية في توليد أسبابه.
إذا كانت الحرب المظهر الأصرخ للعنف الأعمى، المنفلت من أي عقال، والتصريف المادي الأشد جلاء للغرائزي والحيواني في الإنسان، فإن سيرة البشرية مع الحرب وأهوالها لم تختلف عن سيرتها مع العنف وحيوانية الفعل الإنساني. فقلد جهدت طويلاً كي تُحد منها وتصرف عنها وتحذر من مغبتها، عن طريق تعظيم الحق في الحياة، وتعظيم كرامة الإنسان وسلامته، وتعظيم السلم والوئام والتعاون.
فعلت ذلك الأديان ابتداء، وزخرت بذلك تعاليمها؛ أكانت أدياناً إبراهيمية توحيدية، أو كانت آسيوية أو وثنية، وفعل ذلك المفكرون والفلاسفة وكبار المصلحين في التاريخ. ودخلت سياسات الدول والقوانين واتفاقيات السلام على الخط، ففرضت اللجوء إلى أساليب أخرى لفض المنازعات المسلحة والحروب. ثم تنامت في الأثناء وفي ما بعد الحركات الداعية إلى السلام ومناهضة الحروب في العالم كله، وازدهر فكر «إنسانوي» مداره على فكرة السلم بين الأمم والشعوب والتعاون والتفاهم..
هكذا كان تطويق الحرب والدعوة إلى نبذها يسير في التاريخ، على قدم وساق في محاولة للحد منها إلى أضيق الحدود، إن كان يستحيل إنهاؤها بالكلية.
وإذ كان الجهد السلمي هذا يصطدم عبر مراحل التاريخ كافة بإرادة العدوان والحرب التي لا يقف في وجهها حائل أو يمنعها محذور، ولما كانت إرادة الحرب تلك تمتح مواردها من المصالح الدافعة إليها، كان ينبغي في أقل القليل، التدخل السياسي والأخلاقي لوضع قواعد لها ومبادئ تحمل المحاربين على احترامها، للحد من الخسارات والنكبات التي تخلفها. وقد اقتضى الوصول إلى تلك القواعد والمبادئ خوض حروب ضارية من أجل فرضها على العالم كله. يكفينا مثلاً لذلك، أن نشير إلى أن الوفاق الدولي على «اتفاقية جنيف» عام 1949، حول سلامة المدنيين أثناء الحروب، اقتضت حربين عالميتين طاحنتين في أوروبا أزهقتا أرواح عشرات الملايين من البشر ودمرتا بلداناً واقتصادات وإرثاً حضارياً غنياً، قبل إقرارها والعمل بمقتضى أحكامها (علماً بأن احترامها لم يجرِ دائماً على نحو كامل في الحروب). وفي الأحوال كافة، لم يقع أن جرمت الحروب في الاتفاقيات؛ بل اكتُفي بتجريم العدوان على المدنيين فيها، أو بتجريم قتل أسرى الحرب.
والاكتفاء عينه، ما نجده في حال الاتفاقيات الدولية بمنع انتشار السلاح النووي وحظر استخدامه واستخدام غيره من أسلحة الدمار الكلي (الكيميائي والبيولوجي والجرثومي).
قد يميل ظن البعض إلى الاعتقاد بأن البشرية اهتدت في عهدها الراهن إلى فرض قيود الأخلاق على الحرب إلى حد «أخلقتها» أو «أنسنتها»! والحق أنه لا أخلاق للحرب وفي الحرب، أما «أخلاقياتها» فلا تعدو أن تكون شبيهة بطقس الأضحية الذي يبارك القتل من دون أن يبرره كفعل إفناء لكائن. إن الذي حصل لم يكن «أخلقة» للحرب، بقدر ما كان عقلنة، على أن العقلنة هنا ينبغي ألا تفهم بأنها تحكيم العقل في الحرب؛ بل وضع قواعد عقلية لها متوافق عليها، بحيث يمنع انتهاكها. وبالجملة، لسنا واهمين بإمكان انتهاء ظاهرة الحرب، أو قيام عالم خال من الحروب؛ لأن ذلك معناه وجود إنسان «فوق إنساني» على هذه الأرض، ومعناه خلو العالم والتاريخ من المصالح. أما ما نعتقده، فهو إمكان إحراز مزيد من تضييق نطاق اللجوء إلى الحرب عن طريق تعظيم فرص كما وسائل تحصيل المصالح سلمياً، ولا يكون ذلك إلا بالتسليم بمبدأين: مبدأ توازن المصالح ومبدأ التوزيع العادل للمصالح والحقوق. وهذان المبدآن يحتاج رسوخها قطعاً، إلى ثورة في الذهنية والثقافة الإنسانية، ولكنهما يحتاجان من أجل إنفاذهما أيضاً، إلى رياضة مديدة على فكرة السلام وتجربته، وتجربة التسوية السلمية للمنازعات.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"