في المجتمع الملتحِم بالدّين

00:33 صباحا
قراءة 4 دقائق

لا يقوم الاجتماع الإنساني بالدّين ولا يتوقّف قياماً على وجوده فيه. المجتمع، هنا، مثل الدّولة في استواءِ أمْرِه على عوامل أخرى عدّة، غير روحيّة: العوامل الماديّة التي من جنس الحاجات والضّروريّات للبقاء وللأمن. مع ذلك، ليس يمكن للمرء أن يتجاهل ما ينهض به الدّيني من أدوارٍ في النّظام الاجتماعي: انتظاماً واشتغالاً وتطوُّراً. صحيحٌ أنّ المجتمعات أقدمُ في الزّمن من الأديان، وأنّها ما عدمت لقيامها أسباباً لا صلة لها بحاجات الإنسان الرّوحيّة، ولكنّ من الصّحيح أيضاً - وفي الوقت عينِه - أنّ تَلازماً بين الاجتماع الإنسانيّ والدّين ظلّ ثابتاً ومستمرّاً، مثلما ظلّ ملحوظاً لدى دارسي تاريخ ذلك الاجتماع، الأمر الذي يتأكّد معه أنّ الدّينيَّ ظلّ يمثّل حاجةً في المجتمع الإنسانيّ.

على أنّ حاجة الاجتماع الإنسانيّ إلى الدّين ليست، في السّياق الذي نحن فيه، حاجةً روحيّة تعبُّديّة لأنّ هذه، ببساطة، حاجةٌ فرديّة، في المقام الأوّل، وهي في جملة العوامل التي تتكوّن بها شخصيّتُه والتي تجعل منه ذلك «الحيوان الميتافيزيقيّ» كما سمّاه شوپنهاور. إنّها، بالأحرى، حاجة جماعيّة وبالتّالي، اجتماعيّة وإنْ هي تبدّت في صورةٍ دينيّة. بعبارةٍ أوضح، ليس الدّين هنا - أعني في هذه العلاقة التي تربطه بالمجتمع - محضَ علاقة إيمانيّة بالمطلق؛ علاقة يَنْشَدُّ فيها المرء، عاموديّاً، إلى اللّه وإنّما هي علاقة دنيائيّة أفقيّة تشُدُّ المؤمنين إلى بعضهم، ويتولّد منها شعورٌ عامّ مشترك بالانتماء إلى جماعةٍ اعتقاديّة واحدة مجسَّدة في جماعةٍ اجتماعيّة ثمّ سياسيّة. في هذه العلاقة، يخرُج الدّين عن نطاقه الرّوحيّ، أي بوصفه إيماناً وتعبُّداً ومناجاةً وبحثاً عن النّجاة الفرديّة، ليصبح ميكانيزماً اجتماعيّاً دافعاً لتماسُك الجماعات الإنسانيّة، ولخَلْع النّظام عليها وتوليد أسباب التّآزر بين أفرادها الذين تصهَرُهم بنياتُها.

منذ الإمبراطور قسطنطين، وَقَر في أذهان رجال الدّولة ورجال الفكر وعْيٌ بأدوار الدّينيِّ في المجتمع والدّولة. لم يعتنق قسطنطين المسيحيّةَ ويفرضها ديانةً رسميّةً للإمبراطوريّة الرّومانيّة إلاّ لأنّه اهتدى، بحسّه السّياسيّ، إلى حاجة المجتمع الرّومانيّ الوثنيّ إلى دينٍ يتوحّد به. الوثنيّة لا تُوحِّد، بل على حدود تعدُّد اعتقاداتها ينقسم المجتمع، أمّا الدّين - خاصّةً الذي ينتمي إلى الفكرة التّوحيديّة - فيضُخُّ روح الوحدة في المجتمع والدّولة على السّواء. والحقُّ أنّ الإدراك عينَه لحاجة الجماعة إلى الدّين حصل في الإسلام منذ قيام حُكْم الرّاشدين، وقد استقرّ ذلك معتقداً فكريّاً رئيساً عند فقهاء السّياسة المسلمين، من أمثال الماوردي وأبي يعلى الفرّاء والجويني، بل حتّى لدى كتّاب الآداب السّلطانيّة. لكنّ التّنظير لعلاقة الدّين بالاجتماع عاد إلى ابن خلدون أكثر من غيره لسببٍ ليس يتعسَّر على الإدراك: امتلاكه الأدوات المفهوميّة التي تسمح بمعرفة النّظام الاجتماعيّ، لذلك العهد، وتحليل آليات انتظامِه وتطوُّرِه.

لا يميل ابنُ خلدون إلى القول إنّ الدّين عاملٌ في تكوين الاجتماع، أو حتّى هو في جملة عوامل التّكوين. أطروحتُه، في هذا الباب، معروفةٌ لدى الدّارسين وفيها يخالف ما دَرَج على القول به سلفُه ومعاصروهُ من الفقهاء من حاجة الاجتماع السّياسيّ، في قيامه وتَكَوُّنه إلى الدّين. ليس الاعتقاد مبدأً لتكوين الاجتماع، عند ابن خلدون، بل مبدؤُهُ الاعتصاب. إنّ العصبيّة وصراعات العصائب هي القانون الحاكم للاجتماع الذي حلّله لا الدّين. والعصبيّة لا يكون مبْناها عنده على رابطة الدّم أو النّسب، وإنّما على الاعتقاد بمثل ذلك النّسب الذي هو وهميّ عند ابن خلدون. وعلى ذلك، فالفائدةُ المتحصّلة من الاعتقاد بذلك النّسب لا اليقينُ منه كاعتقادٍ، بل ما يتولّد منه من التحامٍ ينتظم به أمرُ الجماعة وتتوثّق به عُراها وعلاقاتُها التّضامنيّة التي بها تكون جماعةً موحَّدة: أي عصبيّة؛ صغرى كانت أو كبرى أو أكبر (المجتمع). على أنّ العصبيّة تزداد قوّةً وتلاحُماً كلّما اقترنت بدعوةٍ دينيّة: على ما لاحظ العلاّمة من استقرائه للتّاريخ العربيّ الإسلاميّ.

الاجتماع الإنسانيّ في حاجةٍ إلى الدّين، إذن، لأنّه الأَسمنت الذي تلتحم به المجتمعاتُ وتنصهر في حالةٍ عامّة من الشّعور الجمْعيّ بنفسها وبهويّتها. ولقد يبدو الأثرُ الفعّال للدّين في تصنيع وحدةِ مجتمعٍ مّا، وتحصينها واستنفارِ قُوى ذلك المجتمع، كلّما كان هذا في مواجهة مجتمعٍ آخر ودولةٍ أخرى تهدّدانه. يتبدّى أثرُ الدّين في مثل هذه الحال في قدرة قيمِه على تذويب التّناقضات بين الجماعات المختلفة داخل المجتمع الواحد، وعلى صهرها في كينونةٍ اجتماعيّة موحَّدة في وجْه الخطر الذي يتهدّدها من خارج. هكذا تتوقّف انقساماتُها الدّاخليّة إلى حين في الوقتِ عينِه الذي يسري فيها شعورٌ بالتّماثُل شبهِ المطلق. والغالبُ على المجتمعات أن تشهد على هذه الحال من مفعوليّة التّوحيد في جسمها في اللّحظات التي تعيش فيها تجربةَ حربٍ أو مواجهةٍ مع عدوٍّ خارجيّ كمثل الاحتلال. لذلك ما كان مستغرَباً - في تجربتنا التّاريخيّة العربيّة الحديثة - أن تتوسّل الحركاتُ الوطنيّة الدّينَ في نضالها ضدّ المستعمِر، وأن توظّفه في عمليّة تعبئة الجمهور الشّعبيّ وتؤسِّس عليه إيديولوجيا سياسيّة كفاحيّة؛ إذْ هي وقفت، بالمعاينة المباشرة، على نجاعة خيار اعتماده بوصفه مرجعاً جامعاً ومخزوناً من القيم الحاضّة على التزام الجماعة ورفْعِ المُنْكَر وحماية دار الإسلام. وهذا ينطبق على غير العرب والمسلمين من الأمم الأخرى التي تدين بأديانها...

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yc5enfww

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"