«إسرائيل» ومفهوم الدولة الوطنية

05:16 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

تعيش الدول الوطنية في منطقة الشرق الأوسط تحديات كبيرة وخطيرة بالنسبة لحاضرها ومستقبلها السياسي، فالتحولات الدولية الكبرى التي تعرفها العلاقات الدولية وبخاصة ما تعلق منها بالأهداف الاستراتيجية التي ترسمها الدول الكبرى، يجعل دول المنطقة العربية تواجه مخاطر تمس بشكل مستمر أمنها واستقرارها، نظراً لبروز مجموعات وقوى محلية مدعومة إقليمياً ودولياً لا تريد المحافظة على الحدود الوطنية للدول العربية، وتسعى إلى تفتيت وحدتها الترابية وإنشاء كيانات بديلة اعتماداً على برامج غامضة لا تعترف بالقيم ولا بالمبادئ التي أسهمت في تأسيس الهويات الوطنية للدول في مرحلة ما بعد الاستقلال.

وفي مقابل هذه المخاطر التي تعصف بدول الشرق الأوسط نجد أن «إسرائيل» تبدو مرتاحة إلى حد بعيد ولا نلقى لدى قادتها انزعاجاً واضحاً من هذه التهديدات المحدقة بالدول الوطنية، وكأنها خارج التاريخ والجغرافيا وتتمتع بحصانة غير متاحة لدول جوارها الإقليمي، ويمكن تفسير هذا الارتياح «الإسرائيلي» بناءً على معطيات عديدة، نذكر من بينها عاملين أساسيين: أولهما انخراط قادة «تل أبيب» في الخطط الرامية إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة، لأن من شأن هذه الفوضى «غير الخلاقة» أن تسهم في استنزاف قوة خصومها، الذين لن يستطيعوا مجابهتها عسكرياً - على الأقل على المدى المنظور- في سياق حرب تقليدية شاملة بينها وبين الدول العربية. العامل الثاني ويعتبر الأهم بحسب زعمنا، ويتعلق بطبيعة «إسرائيل» وبهوية كيانها الصهيوني، لأن هذه الدولة ليست دولة وطنية بالمعنى التقليدي للمفهوم المتداول في الأدبيات السياسية، إنها تجميع لشتات غريب قائم على أوهام التاريخ ومقولة الشعب المختار التي تنسج رابطاً قائماً على أساطير وافتراضات تاريخية غير مثبتة علمياً بين اليهود في كل أصقاع المعمورة، نحن إذن في مواجهة كيان غير خاضع لأبجديات وأعراف سياسية ولا حتى للمبادئ النظرية والتطبيقية التي تتشكل وفق أسسها الدول الحديثة.
ونلاحظ في السياق نفسه أن معطيات الفلسفة السياسية تشير إلى أن «إسرائيل» ليست سوى دولة افتراضية، ظلت تعيش طيلة ردح من الزمن في مخيلة منظري الحركة الصهيونية، وما زالت تقترن بالنسبة للكثير من أفراد الشتات اليهودي بالفكرة الخيالية التي يعتبر تجسيدها في الوجدان واللاشعور الجمعي أهم بكثير من تجسيدها فوق أرض عربية هي أشبه ما تكون بالرمال المتحركة، وعليه فإن «إسرائيل» التي يدافع عنها الشتات اليهودي، لا يمكن أن تتأثر بما يحدث من تطورات مأساوية في المنطقة العربية، لأنها كيان يتجاوز معطيات الواقع ويعيش في الذاكرة الجماعية لمن يؤمنون به.
وقد تكون الصورة بالنسبة لهذا الشتات الهجين أبلغ من النموذج الواقعي المجسد، لأن زوال النموذج لن يؤدي بالضرورة إلى زوال الصورة التي استقرت في الوعي والتاريخ، قبل أن تفتك عنوةً مكاناً لها في جغرافية الآخرين. ومن ثمة فإن التنافس السياسي والاستقطاب الحاد في «إسرائيل» لا يؤثر في مكوناتها مثلما يؤثر في الدول الأخرى، ليس لأنها متماسكة ومحصنة ضد كل أشكال التأثير الخارجي وفي مواجهة الصراعات الداخلية، فالسبب يعود في اعتقادنا، إلى أنه لا وجود لوطن ولا لمواطنين بالمعنى المتعارف عليه، هناك تجمع لأشخاص ينظرون إلى النموذج الواقعي كما كان ينظر الفيلسوف اليوناني أفلاطون إلى الواقع المادي على أنه نسخة مشوهة من الواقع «الحقيقي» الموجود في عالم المثل، إذ لا يمكن لصراع داخلي يحدث في واقع «مشوه» أن يهدد أمن «دولة» ترى نفسها أكبر بكثير من معطيات الجغرافيا الصغيرة التي تحيط بواقعها المادي الراهن. ويأتي دعم قسم كبير من الشتات اليهودي في العالم لهذه النسخة المادية المشوهة من منطلق خوفهم من إمكانية تأثير زوال النموذج على الصورة التاريخية نفسها، وبالتالي فإن الذين يشتركون ويتحالفون ويجمعون الأموال ويشترون الذمم في سبيل الدفاع عن الصورة لن تصل تناقضاتهم بشأن النسخة، إلى الحدود الجدلية القصوى التي يصل فيها الصراع الواقعي في الدول الوطنية.
ومن الواضح أن «إسرائيل» غير معنية بشكل مباشر بالمساهمة في المحافظة على الدول الوطنية في المنطقة، لأنها تنظر إلى نفسها كدولة لا يمكن أن تتأثر سلباً بتفكك الكيانات المجاورة لها، بل ترى أن صورتها ستظل أكثر قوة كلما ساد الخراب والدمار والموت في محيطها الذي ما زالت تنظر إليه كتجمع همجي لأشباه البشر.
ونستطيع أن نزعم في سياق هذه المقاربة أن الصراع مع «إسرائيل» لا يجب أن يأخذ في الحسبان معطيات الاستراتيجية الدولية والجغرافيا السياسية والدينية للمنطقة فقط، ولكنه يلزمنا أن نسعى إلى إعادة السيطرة- في اللحظة نفسها- على التاريخ بأبعاده الحقيقية والخيالية، حتى نجعل الصورة تتمزق وتهوي بأصحابها في بحور الهلوسة المتلاطمة الأمواج.
قد يبدو لنا من الوهلة الأولى أن «إسرائيل» أكثر قوة من خصومها في المنطقة لأنها تعتمد على دولة تحميها الصور الافتراضية للوعي والتاريخ، لكن الحقيقة الكبرى التي تغيب عن مخيلة ووعي الحركة الصهيونية، هي أن الصورة عندما تسقط أو تتمزق لا يمكن إعادة تشكيلها وإحيائها ورسمها مرة أخرى في أذهان من كانوا يحملونها ويحرسون أسوارها، بينما دول المنطقة العربية، فإنه وعلى الرغم من كل المآسي والنكبات التي واجهتها عبر تاريخها، إلا أنها كانت تنجح في كل مرة في مساعيها من أجل إعادة تشكيل وبناء كياناتها، ولن تقف محن الراهن عقبة في وجه طموحات شعوبها من أجل إنقاذ دولها الوطنية وإعادة بنائها على أسس التعددية والمساواة وقيم المواطنة المشتركة، لأن الواقع المادي يظل أقوى من كل الصور التي تختبئ في أقبية التاريخ المظلمة حتى لا تواجه حقائق الجغرافيا الثابتة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"