«السترات الصفراء» في فرنسا

03:13 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

استمرار الاحتجاجات بعد أشهر عدة من اندلاعها، طرح وما زال يطرح أسئلة سياسية واجتماعية وحتى ثقافية وفلسفية بشأن بنية السلطة في فرنسا وعلاقة الجماهير بنظام الحكم.
مرت سنة كاملة تقريباً على تأسيس حركة السترات الصفراء في فرنسا في 21 أكتوبر/تشرين الأول من خلال التعبئة الجماهيرية عبر وسائط التواصل الاجتماعي، ثم تطورت تدريجياً في شكل حركة اجتماعية عفوية احتجاجاً على قرار الحكومة الزيادة في الضرائب على الوقود، وبدأت تأخذ منحى تصاعدياً بداية من 17 نوفمبر/تشرين الثاني من خلال غلق الطرقات ووضع حواجز من أجل وقف حركة المرور والضغط على الحكومة الفرنسية لدفعها إلى التراجع عن قرارها، واستمرت تظاهرات السترات الصفراء بعد ذلك بشكل أسبوعي في كل أيام السبت.
وتحولت التظاهرات بعد أسابيع قليلة إلى مواجهات عنيفة بين المحتجين وقوات مكافحة الشغب، ولم تستطع كل إجراءات التهدئة التي اتخذتها الحكومة من تخفيف درجة الاحتقان في أوساط هذه الحركة.
ويشير المتابعون للشأن الفرنسي، إلى أن تظاهرات السترات الصفراء، حازت مع بداية اندلاعها تأييد أكثر من 80 في المئة من الرأي العام الفرنسي، قبل أن يبدأ التعاطف معها في التراجع لأسباب تتعلق بصعوبة توجيهها والتحكم في ممارسات أفرادها.
ويمكن القول إن استمرار هذه الاحتجاجات بعد أشهر عدة من اندلاعها، طرح وما زال يطرح أسئلة سياسية واجتماعية وحتى ثقافية وفلسفية بشأن بنية السلطة في فرنسا وعلاقة الجماهير بنظام الحكم ومسألة احتكار العنف المشروع من طرف مؤسسات الدولة وأسلوب اختيار الشعب لمن يحكمه، إضافة إلى دور النخب في قيادة وتوجيه الديمقراطية الليبرالية في فرنسا وفي الغرب بشكل عام.
وقد فرض هذا التحرك المفاجئ للحشود دون قيادة، تحديات أمنية كبرى على السلطات الفرنسية التي واجهت مصاعب كثيرة في احتواء هذه الاحتجاجات غير المسبوقة، التي أدت استمراريتها في الأزمنة والأمكنة نفسها بشكل متواتر، إلى تهديد النظام العام في البلاد.
كما عكست تحركات السترات الصفراء، رغبة قسم من المجتمع من أولئك الذين يتبنون مواقف متطرفة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، في تعديل قواعد الممارسة السياسية من خلال الابتعاد بشكل واضح عن نموذج الديمقراطية غير المباشرة التي تعطي تفويضاً شعبياً واسع الصلاحيات من أجل قيادة الدولة وتسيير الشأن العام، مع المطالبة بإنهاء الامتيازات الممنوحة للمنتخبين، وصولاً إلى تحقيق ديمقراطية تشاركية مباشرة تتقاطع إلى حد بعيد مع التصورات الشعبوية التي تطرحها شخصيات بارزة في أحزاب أقصى اليمين واليسار؛ حيث دعت مجموعة من السترات الصفراء في منصة أطلقتها يوم 2 ديسمبر/كانون الأول 2018 إلى القيام بإعادة نظر جذرية في سياسة فرض الضرائب وإلى التنظيم الدوري للاستفتاء الشعبي بشأن التوجهات الكبرى في المجالين الاجتماعي والمجتمعي وإلى اعتماد نظام اقتراع نسبي بالنسبة للانتخابات البرلمانية.
وقدمت هذه المجموعة، النموذج الفيدرالي السويسري كمثال لما يجب أن تكون عليه الديمقراطية المباشرة المعتمدة على آلية الاستفتاء كخيار أساسي يقلص من صلاحيات البرلمان في اعتماد تشريعات حاسمة تؤثر بشكل مباشر في حياة المواطنين.
وعلى الرغم من المساندة الجماهيرية التي حازتها حركة السترات الصفراء مع بداية انطلاقها خلال السنة الماضية، فإن اختراقها من طرف المجموعات المتطرفة ومحاولة توظيفها واستثمارها من طرف حزب التجمع الوطني اليميني المتشدد وحزب فرنسا الأبية من أقصى اليسار، أدى إلى تراجع كبير في نسبة التأييد الممنوح لها بسبب تورط بعض أفرادها في العنف؛ حيث بدأت الأصوات الرافضة لها تتعالى في أوساط السياسيين والفنانين ورجال الفكر والثقافة.
ويمكن أن نلخص أبرز المواقف الفكرية تجاه هذه الظاهرة من خلال تصريحين مهمين عبّر عنهما فيلسوفان كبيران أحدهما محسوب على اليمين والثاني على اليسار، فقد أثار لوك فيري، موجة استهجان واسعة عندما دعا رجال الشرطة إلى استعمال أسلحتهم، وحاول أن يبرر موقفه هذا بقوله: لم أدع أبداً إلى إطلاق النار على السترات الصفراء، الذين دافعت عن حركتهم منذ بدايتها، أدعو بكل بساطة إلى أن يكون بإمكان رجال الشرطة وفق ما يطالبون به، استعمال أسلحتهم غير المميتة عندما يسعى البعض صراحة إلى قتلهم. أما الفيلسوف اليساري آلان باديو، فقد وصف حركة السترات الصفراء، بأنها رجعية وغير فعالة وانتقد تصريحاتها وسوء تنظيمها وأسلوب تحركاتها وافتقادها لفكر عام ولرؤية استراتيجية، وأكد في الأخير، أنه توجد بداخلها فئة صغيرة ومهمة يمكنها أن تكون ملائمة في المستقبل من أجل تشكيل المبادئ الأولى «لشيوعية جديدة».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"