«فقه» التوحش

00:27 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. يوسف الحسن

}} هذا زمان «فقه» التوحش، «فقه» الموت والقتل والترهيب، وانتهاك كرامة الإنسان، وهي كرامة أسبق من كل انتماء أو هوية أو جنس، وهي حصانة أولية للإنسان، ثابتة له، بوصفه إنساناً كرّمه خالقه وجعله خليفة له في الأرض.

}} «فقه» التوحش يقدم نفسه باسم الدين، ويرى في الموت نزهة، وفي القتل قدسية. نزع عن الإسلام كل صفات الرحمة والهدى وإعمار الأرض وتنظيم الكون والعدل والخير ومنظومات القيم والأخلاق وحقوق الإنسان.
}} «فقه» يتلذذ بتعذيب الناس وقهرهم، بالحرق والإغراق وجزّّ الرؤوس. يداه مغسولتان بدماء مصلين صائمين أبرياء. ويهتف قائلاً: «أريد اللحاق بالإفطار مع رسول الله». يقطع رأس مديره في العمل ويلتقط صورة «سيلفي» لنفسه حاملاً الرأس المقطوع ويرسلها إلى صديق له يمارس الذبح الوحشي في سوريا.
}} «فقه» متوحش سادي، يقيم سوقاً للنخاسة والاسترقاق الجنسي بجوار جامع الفلوجة الكبير، يملأ السوق بنساء وفتيات سوريات كسبايا، تباع المرأة فيه بما بين خمسمئة دولار وألفي دولار، وينظم مسابقة لحفظ القرآن الكريم تكون الجوائز فيها عبارة عن «سبايا» توزع على الفائزين، يصاحب الفوز مثله مثل الذبح والتفجير هتاف «الله أكبر». والمرأة هنا سلعة تباع وتشترى، وتوظف كأحد أهم عناصر جذب المقاتلين الجوّالين.
}} لاحظت أن سوق السبايا أقيم بجوار جامع الفلوجة الكبير، بمعنى أن تكون السبايا في متناول أيدي المصلين! قريبة من بيوت الله!! تذكرت أن أكبر سوق للرقيق كان موجوداً بجوار المسجد الحرام قبل أن يصدر قرار وقف الرق وتحرير الأرقاء في نوفمبر من العام 1962. وكان المشتري يقوم بفحص شعر وذراعي الغلام ويطلب منه فتح فمه وإخراج لسانه.
}} تذكرت أيضاً الدولة العثمانية حينما أبطلت أسواق النخاسة، انسجاماً مع قرارات دول أوروبية في إبطال الرق في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، قامت تظاهرات صاخبة في بعض المناطق العربية وقادها «مشايخ» لإلغاء هذا القرار العثماني باعتباره يعطل «حكماً في الدين» وتم التراجع عن هذا القرار.
}} انتهى زمن الرق والسبي والأعراض مصانة لكل البشر، وها هو «فقه» التوحش يعيده من جديد.

}}}

}} يسأل المواطن العربي مشايخه وعلماءه ووعاظه ونخبه الثقافية والسياسية والتربوية ومؤسساته الرسمية وهيئاته الأهلية عن كيفية صناعة البيئة الملائمة لهذا «الفقه» المتوحش، وكيف أصبحت له هوية جذابة واسعة الانتشار، ومنتج ترويجي وإعلامي فعّال، وكيف انجذبت نساء إلى هذا «الفقه الداعشي» المدمر للحياة والكرامة الإنسانية والذي يقتل البشر، ويغتال الدولة والمؤسسات والمفاهيم، ويخطف صحيح الإسلام، ويعمم الخراب ويؤجج الكراهية والإقصاء؟؟.

}} كيف انجذبت نساء وتجندت وروّجت وصارت «شرطة نسائية» لداعش وتربي جيلاً من الأطفال ينفذون حكم الإعدام بالرصاص في حق أسرى أمام جمهور يتفرج على حفل القتل المقام على مسرح روماني في تدمر.
}} كيف تمكنت «السلفية الجهادية» من تصديع بُنى عشائرية تقليدية أردنية لا أثر في بيئتها لنزاع سني- شيعي، وجذب أكثر من ثلاثة آلاف «مجاهد» متنقل، يمارسون أعمال الذبح والتدمير، واستحلال الدماء والأعراض. ويغنّي الناس «للخليفة البغدادي» في الأعراس؟
}} تذكّرتِ «الدواعش» مؤخراً، أن في القدس المحتلة وضواحيها نصارى «خانوا العهدة العمرية»... (كيف؟.. لا أحد يدري)، فأصدرت بلاغاً بأن «مجموعة السيوف الصوارم» ستطهِّر القدس من هؤلاء الكفرة (النصارى) وسيذبحون مع إشراقة عيد الفطر كالخراف... لا مكان «لإسرائيل» في أجندة أتباع هذا «الفقه» العنيف البشع.
}} تذكرت عبد الله يوسف عزام الأكاديمي الفلسطيني الإخواني الذي يحمل درجة الدكتوراه في أصول الفقه من الأزهر، وهو يجنّد وينظّم الآلاف من الشباب ويقودهم إلى «الجهاد» في أفغانستان، ويؤسس مع أسامة بن لادن والظواهري «مكتب خدمات المجاهدين» في بيشاور الباكستانية ويفتتح أكثر من ثلاثين مكتباً في أمريكا لجمع التبرعات للمجاهدين وعبر البنوك الأمريكية.
}} تذكرت هذا «العزام» الأكاديمي الفلسطيني في الجامعة الأردنية، وجامعة الملك عبد العزيز وفي إسلام آباد وكيف «تاهت» بوصلته عن تحرير القدس المحتلة، وتوجهت إلى «تحرير» أفغانستان، حينما أذّن (بريجنسكي) في كابول وحينما شجعنا وموّّلنا كعرب حرباً ليست حربنا، وحينما انتهت الحرب، عادت «الوحوش» المصنّعة إلى بيوتنا وبيئتنا لتدمرها.
}} أي ضمير ديني أو منطق يمكنه أن يفسر لنا كيف يلتحق شبان فلسطينيون من أراضي 1948 بالقتلة الجوّالين في سوريا ليقيموا فيها «الخلافة» بدلاً من تحرير شارع أو حتى زقاق في الخليل أو حيفا؟

وكيف نفسر لغز المعتنقين الجدد للإسلام في أوروبا وغيرها، حتى يهجروا بلادهم وثقافة وقيماً وحرية يعيشون في ظلها، ويتوجهوا إلى «مقتلة» يومية في العراق وسوريا وغيرهما، قبل أن يفقهوا سطراً واحداً من أحكام الشريعة؟ أي نوع من «الخلافة» وطبيعتها تلك التي فهموها وجاؤوا بحثاً عن حلمها؟

}} ما الذي يحوّل هذا الشاب التونسي راقص (البريك دانس) إلى قاتل بشع في سوسة؟ وكيف صدّرت فرنسا أكثر من ألف وخمسمئة مقاتل إلى معسكرات «داعش» وصدّرت تونس البورقيبية أضعاف هذا العدد؟
}} ما الذي دعا وربّى قوى شابة متعطشة للدم، ودفعها لترك أنماط حياتها في الجزيرة العربية واليمن لخوض حروب قتل في أفغانستان وسوريا والعراق وغيرها؟ هل كانت «المرحلة الأفغانية» هي المرحلة المؤسسة لهذا «الوعي الجهادي العنيف والبشع» الجاري الآن؟
}} أكاد أجزم بأنه لم تجر في تاريخنا حروب، على أركان الإسلام أو الأحكام الدينية أو سائر العبادات، وإنما جرت كل الحروب والصراعات على السلطة. كما أن جميع موارد الغلو الديني مازالت حاضرة في الكثير من سياساتنا الدينية والتعليمية، ووجدت هذه الموارد ملاذاً فكرياً وسياسياً آمناً لهذا الغلو، مثلما وجدت جماعات الإسلام السياسي الحركي، بيئة ملائمة للعمل والتنظيم والتمويل، ومارست نشاطات وبرامج دينية وإعلامية ومحاضرات، شكلت مرجعيات فكرية لكل موجات العنف.
}} يتداعى إلى الخاطر، تلك الرسالة التي وقّعها عشرات العلماء من عالمنا الإسلامي، والموجهة إلى البغدادي «خليفة دولة داعش» قبل نحو عام وهي الرسالة التي توزعها بعض الحكومات بلغات عدة وعلى نطاق واسع، ما يؤكد أنها تمثل الرد الديني الرسمي على مقولات «داعش». ومن أسف، فإن الأفكار والحجج التي عرضتها الرسالة لا تفيد شيئاً في محاربة «داعش» ومواجهة الغلو والإرهاب، وترى الرسالة أن «الخلافة من الدين» وواجب يجب أن نسعى إلى تحقيقه، وكل ما فعله «داعش» أنه أخطأ الوسيلة أو أن ما فعله من قتل هو «عدم التحوّط»،وربما من حسنات الرسالة أن العلماء الموقعين عليها أفتوا «بجواز حب الأوطان».

.......
........
أخشى أن يطول هذا الظلام الدامس... أكثر مما نتوقع.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"