أحزان أندلسية

00:40 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. يوسف الحسن

}} قرأت في الأسابيع الماضية، أن البرلمان الإسباني «وافق على قانون يسمح لأحفاد اليهود (السفارديم)، (وعددهم نحو ثلاثة ملايين ونصف المليون يعيشون في فلسطين المحتلة وأمريكا وفرنسا والأرجنتين وغيرها)، بالحصول على الجنسية الإسبانية، بعد أكثر من خمسة قرون، على طرد أجدادهم من إسبانيا». وقال وزير العدل الإسباني، «لقد طُرد أجدادهم ظلماً».

}}}

}} لا أحد معافى النفس إلا ويسأل البرلمان الإسباني، ووزير العدل الإسباني، سؤال «المعايير المزدوجة» الخالية من المبدئية. لا أحد صاحب ضمير إلا ويسأل: «ماذا عن أحفاد أندلسيين مسلمين، قُتل أجدادهم وأُسروا وطُردوا من ديارهم قسراً، وسُلبت أملاكهم، وحُرقت مخطوطاتهم وكتبهم؟».

}} وماذا عن أحفاد، علّم أجدادهم في قرطبة وغرناطة وإشبيلية، الغرب الأوروبي، الشعر والفلسفة والنظافة والفن والعقلانية والحب «والإتيكيت» والعمارة، و«لقّّنوا الغيم أمطاره، وعلّموا الزهر ألوانه؟». وماذا عن أحفاد، حرقت «محاكم التفتيش» الدينية، أجساد أجدادهم وهم أحياء، وانغرست في «خواصرهم» سهام التعصب والحقد، وبُعثروا مثل الحصى في البحر الأبيض المتوسط، وشواطئه الإفريقية والأوروبية، وفي هضاب وصحارى العالم؟
}} قالت رضوى عاشور في «بكائيتها» الثلاثية عن سقوط غرناطة، على لسان امرأة أندلسية، «إنهم ينوون ترحيلنا، وبيع رجالنا إلى من يشتري من الدول الأجنبية، ويحتفظون بالذكور من المواليد بعد خصيهم».
}} لم أستطع أن أكمل قراءة رواية رضوى عاشور، وبخاصة الجزء الأخير منها والمسماة «مريمة والرحيل»، والتي أكملت بها ثلاثية غرناطة، ولم أستطع أن أوقف دمعتي، وأنا أقرأ روايتها حول قصة ترحيل الأندلسيين . وتقول على لسان شيخ أندلسي: «لو تركت لهم أرضي وداري أموت كمداً، قبل الوصول إلى ميناء أجنبي».

}} يتداعى إلى الخاطر، حينما نستحضر قصة اقتلاع الأندلسيين من بيوتهم وقصورهم وأملاكهم وجامعاتهم ومزارعهم، قصة شعب كان يمثل حضارة مزدهرة، شعّت بنورها المعرفي والعلمي والفلسفي على أوروبا، وعاشت في ظلها جماعات يهودية، بشكل مثمر ومريح وعيش مشترك.

}} ومن المؤسف، أن العرب، والعالم الإسلامي ظن أن سقوط غرناطة في عام 1492، هو نهاية الوجود العربي والإسلامي في الأندلس، فأصبحت القضية نسياً منسياً، لكن الكارثة الإنسانية الكبرى، بدأت بعد سقوط غرناطة، حينما انطلقت سلسلة من المذابح الوحشية والمجازر والطرد التعسفي، استمرت أكثر من قرنين كاملين، بدءاً من «محاكم الاستجواب والتفتيش»، والتي تجسّد أسوأ ما قدمه اللاهوت والكنيسة والساسة، من ظلم واضطهاد واستئصال لمسلمين إسبان، عاشوا وعمّروا الأرض، واجترعوا حضارة إنسانية، على مدى ثمانية قرون، وعاشوا، بسلام وتسامح في ظل هذه الحضارة، نصارى ويهود ومسلمون.

}}}

}} شُتت الأندلسيون في القرنين السادس عشر والسابع عشر، على أطراف المعمورة، ووصل بعضهم إلى شواطئ المغرب الأقصى والجزائر وتونس، وآخرون عبروا البحر والجبال نحو جنوب أوروبا وغيرها.

}} طُرد من الأندلس، ما يزيد على ربع مليون من المفكرين والعلماء وأصحاب المهن، فضلاً عن مئات الآلاف من الشيوخ والنساء والشباب، وأصدرت إسبانيا أحكاماً وسياسات قاسية بحق كل من رفض التنصير أو التهجير، وعوقب البعض بالرق مدى الحياة، واستشرست محاكم التفتيش، في اضطهاد المسلمين واليهود، باعتبارهم كفرة وملحدين، وبخاصة في مملكة أراغون وإشبيلية وبلد الوليد وطليطلة وقرطبة وغيرها.
}} كما عاقبت هذه المحاكم كل من رأت أن «تنصيره» ليس صحيحاً، عاقبته بالموت حرقاً كمرتد، وحرّمت التخاطب باللغة العربية، ووضع ما تبقى من مسلمي قرطبة، في أحياء خاصة اسمها (موريرا) لكي لا يختلطوا مع غيرهم.
}} وبأوامر ملكية (فيليب الثاني والثالث ومن بعدهما)، طُرد من سموهم «بالمورسكيين» إلى خارج إسبانيا، في ظرف شهرين، وحكم بالإعدام شنقاً على كل متخلف منهم، وصودرت أملاكهم، وأثناء طردهم سطت على كثير منهم، عصابات، تجردهم من أموالهم وحليهم.
}} وتذكر الوثائق الأندلسية، أنه تم طرد نحو ثلاثمئة وخمسين ألفاً من الأندلسيين خلال خمس سنوات (1609 - 1614)، وقبل هذا التاريخ، هُُجّر الآلاف من مدن عامرة ومزدهرة، وقبل أن تنهار مملكة غرناطة، كان عدد سكانها ما يقارب نصف مليون، وقد قُتل عشرات الآلاف من سكانها خلال الأحداث التي أدت إلى سقوط هذه المملكة.
}} ضاع إرث شعب، حينما دفن هؤلاء قبل طردهم، كتبهم ومخطوطاتهم في أسقف البيوت، وأقاموا عليها الحجارة والطين، وحُوّلت مساجدهم إلى كنائس وكاتدرائيات، وحُرِِقت كتب عربية وإسلامية في ساحة الرملة بغرناطة.

}}}

}} استقبلت مدن مغربية عدة، جموعاً كبيرة من هؤلاء المهجّرين، ففي فاس مثلاً، هناك اليوم مئات العائلات الأندلسية، التي هاجرت من غرناطة ورندا وملقا وإشبيلية وطليطلة وقرطبة، بعضها مازال يحمل أسماء إسبانية، ومن هؤلاء الأحفاد علال الفاسي الفهري، وأحمد بن سوده، وأحمد رضا قديره، وأحمد بلا فريج، وغيرهم من علماء وفقهاء وساسة وقادة كثر.

}} وانتشر الوجود الأندلسي في فاس وتطوان وسلا ومكناس ومراكش وغيرها. ويقدر عدد المغاربة من أصل أندلسي بحوالي عُشر سكان المغرب.
}} وفي تونس، حافظت الجاليات الأندلسية على لغاتها العجمية، (قطلانية وقشتالية) إلى القرن التاسع عشر، ويقدر عدد التونسيين المنحدرين من أصل أندلسي بحوالي مليون نسمة، ومن بين العائلات الأندلسية في تونس، عائلة ابن عاشور، وتتواجد أعداد مهمة من هذه العائلات في العاصمة وبنزرت وسوسة ومنستير وصفاقص.
}} ووصلت إلى الجزائر أيضاً أعداد كبيرة من الأندلسيين عبر العصور، ومازال أحفادهم يتذكرون أصولهم الأندلسية، خاصة في العاصمة وتلمسان ووهران وبليدة وعنابة وغيرها. ومن بين هذه العائلات عائلة الشيخ أحمد المدني، وابن سوسان والمسرار.
}} كما هاجر كثيرون إلى ليبيا ومصر، ومن بينهم علماء وفقهاء وشعراء وأدباء وأطباء وتجار، كما هاجروا إلى بلاد الشام، ومن بينهم علماء وزهاد، ومن أشهرهم الصوفي العلامة محيي الدين بن عربي، وكذلك هاجر بعضهم إلى أرض الحجاز، ومن هذه العائلات من أصول أندلسية، عائلة الدباغ.
}} وتشتت الأندلسيون أيضاً، في الأراضي العثمانية واليمن وخراسان وحتى آسيا الوسطى وإفريقيا.
}} وتشير مصادر أندلسية، إلى عدد من الأندلسيين الذين انتقلوا مع الجيوش الإسبانية والبرتغالية إلى جزر إندونيسيا والفلبين، وكثير منهم استقر هناك.
}} كما هاجر أندلسيون كثر إلى فرنسا، وسموهم «اللاجئون المورسكيون»، وأقاموا في طولون، ومرسيليا، وبقي كثير منهم مسلمين سراً، وكذلك الحال في إيطاليا وألمانيا وبعض دول أمريكا اللاتينية.
}} لم تعتذر إسبانبا، عما لحق بأبنائها من الأندلسيين، من ظلم وتهجير وتعذيب وحرق، ولم يتذكر برلمانها ووزير عدلها، أن هناك الملايين من أحفاد هؤلاء، ممن ظُلم أجدادهم، وسُحقت عظامهم وهُجروا بقسوة ووحشية إلى أصقاع الأرض، وأن هناك من الأحفاد، من يعاني شظف العيش، ويضطر لركوب البحر مهاجراً إلى أوروبا، هرباً من قسوة الحياة فيلقى الموت في مياه المتوسط. أليس هؤلاء «الأحفاد» بشراً مثل أحفاد اليهود «السفارديم»، الذين أعطتهم إسبانيا مؤخراً حق الحصول على الجنسية الإسبانية؟
}} ألم يُطرد أجدادهم «المورسكيون» ظلماً أيضاً؟ لكن.. يبدو أن «ازدواجية المعايير».. قد حذفت العدالة من مجمل «السياسات الدولية».
}} الاعتذار.. فعل حضاري وأخلاقي، و«المعايير المزدوجة».. فعل قبيح ومذموم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"