أزمات المجتمعات ومطالب التغيير

03:28 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

إن الحديث عن المجتمعات في المرحلة المعاصرة هو في الأساس حديث عن الأزمات التي تشهدها هذه المجتمعات، والتي لا تحمل بالضرورة دلالة سلبية بقدر ما تشير إلى الحركية المتواصلة التي تحدث في داخلها بين مختلف مكوناتها في سياق تفاعلات تزداد قوة وتأثيراً بحكم انتقال الحضارة الإنسانية المعاصرة من الثورة الصناعية إلى الثورة المعلوماتية والتقنية، وتتمحور هذه الأزمات ومعها كل التحولات المصاحبة لها حول 3 عناصر رئيسية:
1- المجتمع في صورته العامة والشاملة.
2- المجتمع المدني، وهو بمنزلة المجموعة السياسية التي تمارس دور الوسيط بين العنصر الأول والثالث.
3- الدولة التي تعمل من خلال مؤسساتها على التحكم في علاقات القوى وفي التوازنات الداخلية للمجتمع وللمجموعة السياسية الممثلة له على حد سواء.
تحمل المجتمعات، من حيث هي نظام هرمي شديد التعقيد والتركيب، خاصية مميزة وملازمة لها نصطلح على تسميتها بالأزمة، من منطلق أن الأزمة تمثل خاصية الأشياء التي توجد في حالة تطور وتحول مستمرين بحسب التوصيف الذي يقدمه إدغار موران، الذي يقول في هذا السياق: «إن لفظ الأزمة انتهى إلى أن يكون دالاً على الشيء الذي لا يسير على أحسن ما يرام، ولكن هذا المعنى لا يذهب بنا بعيداً. ولذلك يجب أن نؤسس علماً خاصاً بالأزمة يسمح لنا بفهم السيرورات التي تكون قد حدثت في سياق أزمات ذات طبيعة مختلفة، ولكنها كلها اجتماعية. إن كل نظام يملك خاصية التنظيم الذاتي هو قادر على أن ينضبط داخلياً (...). يستطيع النظام المنتظم ذاتياً إنتاج نفسه ذاتياً، ويصدق ذلك على أجسامنا كما يصدق على المجتمعات. وتحدث الأزمة عندما لا ينضبط شيء ما في سياق هذا الإنتاج والتجدد الذاتيين».
ولذا، فالمعضلات المجتمعية لا تتعلق بوجود الأزمات، ولكنها ترتبط بالصعوبات المتصلة بعدم القدرة على إعادة الانتظام الذاتي داخل الجسم المجتمعي، لأن الأزمات تمثل جزءاً من واقع المجتمع، إذ إن كل تحوّل يقود من الناحية العملية إلى وضعيات تمثل في عمقها أزمات تتطلب ضبطاً داخلياً من أجل تجاوز كل التناقضات والعودة إلى حالة الانسجام، وبخاصة أن التطور والتحديث قد يقود في معظم الحالات إلى تدمير جزئي أو كلي للنسيج المجتمعي، ويفرض تحديات جديدة تتعلق باستعادة التوازن المفقود. ويمكن التأكيد هنا على أن المجتمعات التي تستطيع أن تتوقع بشكل أفضل الأزمات تكون مهيأة أكثر من غيرها لمواجهتها، ومن ثم لإعادة ضبط مكونات نسيجها الداخلي.
من الواضح أن الأزمات، وإن كانت تأخذ مظاهر ثقافية أو اقتصادية أو سياسية، فهي في العمق أزمات مجتمعية، لأنها تتعلق بمستوى القدرة على الانضباط والتنظيم الذاتي في مواجهة التحولات الداخلية والخارجية. ونستطيع أن نسجل في هذا السياق أن التحولات التي تفرضها أو تقود إليها عناصر خارجية تقوّض القدرة على التنظيم الداخلي، وهو ما نلاحظه بشكل واضح في المجتمعات العربية التي قادت فيها العناصر الخارجية إلى إضعاف قدرة هذه المجتمعات على إنتاج وتجديد مكونات استقرارها وانضباطها الداخلي، كما أن التعامل مع الأزمات بوصفها أزمات سياسية في المقام الأول يؤدي إلى عدم قدرة المجتمعات على النظر إلى أزماتها من زوايا متعددة تأخذ في الحسبان صعوبات التنسيق، ومن ثم الاندماج ما بين العناصر الثلاثة التي أتينا على ذكرها، وهي المجتمع والمجموعة السياسية (المجتمع المدني)، ثم الدولة التي يصيبها الوهن والهزال نتيجة لعجز الجسم المجتمعي على التعامل بكفاءة واقتدار مع الأزمات.
هناك إذاً سيرورة ومسار متواصلين في الحياة البشرية، حياة تتشكل عبر تحولات دائمة متعاكسة ومتكاملة، تصبح مرة أخرى متعاكسة قبل أن تصير متكاملة، لأن كل جسم، فردياً كان أو مجتمعياً، يعمل على إعادة إنتاج وتجديد نفسه باستمرار بصرف النظر عن الظروف والوضعيات، وعليه فإن التنظيم السياسي للدولة، ومعه التنظيم المتعلق بالمجتمع المدني، لا يمكنهما أن ينضبطا ويتجددا بمعزل وفي استقلالية عن إعادة التجديد والتنظيم داخل المجتمع في مواجهة مختلف الأزمات.
ويقودنا كل ذلك إلى الاستنتاج أن مطالب التغيير السياسي في الدول على المستويين العربي والعالمي، لا يمكن أن تفضي إلى تحولات عميقة تتجاوز نطاق تغيير أشخاص بأشخاص، ونخب وأحزاب بنخب وأحزاب أخرى، إذا لم يتوافر وعي حقيقي بأن الأزمات هي في عمقها أزمات تتعلق بمدى قدرة الجسم المجتمعي في عمومه، وليس فقط في عنصر من عناصره، على خلق ديناميكيات متواصلة تقود إلى التجديد والتنظيم الذاتي للمجتمع، ويتطلب ذلك تجاوز النظرة السلبية للأزمات والتأسيس لعلم مستقل متخصص في فهم وفي إدارة وتسيير الأزمات؛ وبناءً على ذلك فإن حركية المجتمعات لا يمكنها أن تقود إلى تحولات حاسمة في مؤسسات الدولة، إذا لم تعتمد على الحضور الفاعل للمفهوم التفاضلي المتعلق بالمجتمع المدني.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"