أزمة اختيار القيادات

03:29 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. مصطفى الفقى

ما عرفت بلداً راقياً ولا شعباً ناهضاً ولا دولة متقدمة إلا وهي تدرك أهمية اختيار القيادات في المناصب المختلفة، ويبدو أنها أصبحت محنة في بلدنا ليس الآن فقط ولكن منذ سنوات طويلة. فالاختيار أحياناً لا يخضع لقواعد واضحة ولا توصيفاً وظيفياً محدداً، كما أن البحث لا يجري على ساحة الوطن كله، ولكنه يبقى قاصراً على من يعرفهم أولئك الذين يبحثون في الأسماء لاستدعاء الكفاءات واختيار أهل الخبرات.
إن الذي يحدث في الغالب هو أن الاختيارات تكون متعجلة أو تقليدية أو لا تدرك معايير الاختيار الدقيق في المواقع المختلفة، الأمر ليس بالسهولة التي نراها إذ لا يجب أن يحكمنا الهوى أو تسيطر علينا رغبة اختيار أهل الحظوة، فالمسألة أكثر من ذلك تعقيداً، وقد سألوا بعض حكماء السياسة ذات يوم عن رأيهم في حاكم معين فقالوا جميعًا : ابحث فيمن يختارهم لتدرك توجهاته الحقيقية وقدراته الانتقائية، فالمرء يعرف بمن يصطفي ، لذلك فإن المناصب الوزارية واختيار المسؤولين الكبار تشكل في النهاية مرآة عاكسة نرى فيها صورة كاملة للنظام السياسي، وندرك حجم قدرته المحتملة على تحقيق الأهداف وصياغة المستقبل، ولعلنا نختار هنا بعض المحاور الأساسية في عملية الاختيار على نحو يحدد نوعية المسؤولين وكيفية التعامل معهم ونعرض ذلك في النقاط التالية:
} أولاً: إنني أتصور أن يكون لدى الدولة - وليكن ذلك من مسؤوليات وزارة التنمية الإدارية - مسح ميداني شامل للكفاءات العالية في التخصصات المختلفة لأنه من غير المعقول ولا المقبول أن نترك الترشيحات للجهات الأمنية وحدها، وأنا بالمناسبة لا أجادل في حق تلك الجهات في مراجعة الأسماء على أن تترفع عن الخوض في الأخطاء الصغيرة ما لم تكن ذات ضرر مباشر على الحياة السياسية خصوصًا إذا كانت أخطاء بشرية معتادة ليس فيها تجاوز في حق الوطن ولا سطو على المال العام ولا استغلال نفوذ لتحقيق مكاسب شخصية، وليكن معيار الكفاءة وخدمة الوطن والحاجة إلى أصحاب الخبرة معايير تضعها الأجهزة الأمنية في موازنة عادلة عند تقويم الأشخاص وإبداء الرأي فيهم مبتعدين عن ازدواج المعايير والكيل بمكيالين.
وأنا على يقين أن أبناءنا الشرفاء في الأجهزة الأمنية المختلفة يدركون ذلك ويعلمون أن الترشيحات مسؤولية وطنية يسألون عنها أمام الله في يوم الحساب، وأنا مقتنع أيضاً أنه لا يحكمهم الهوى ولا العلاقات الشخصية ولا المعرفة المباشرة عند المفاضلة بين الشخصيات المرشحة، بل وأزيد على ذلك أنني قرأت أن الإمام ابن حنبل قد دعا إلى تجاوز الهنات الصغيرة لحاكم ينفع الناس وينفع نفسه باعتباره أفضل من حاكم آخر أكثر صلاحًا ولكنه لا ينفع الناس ولا ينفع نفسه! وأعترف أن هذه مقولة جدلية قد يساء استخدامها ولكن الإشارة إليها أمر واجب، ولا شك أن الاختيار يجب أن يكون ذا طابع سياسي أيضاً وليس أمنياً بحتاً حتى لو كان في تشكيل حكومات للتكنوقراط، فالمسؤول الذي يملك رؤية شاملة أفضل بالضرورة من ذلك الذي لا يرى إلا من زاوية واحدة ، كما أن المسؤول صاحب الرأي أفضل من نموذج المسؤول الطيع الذي لا رأي له ولا فائدة منه.
لقد أصدرت كتاباً منذ خمسة عشر عامًا بعنوان (الرهان على الحصان) ناقشت فيه قضية الاختيار للوظائف بدرجاتها المختلفة مفضلاً نموذج (الحصان) الذي لا يمتطيه إلا فارسه والذي تكفيه قطع صغيرة من السكر توضع في فمه حتى يواصل الطريق في مثابرة وجدية والتزام، خلافاً لنموذج (الحمار) الذي يمتطيه من يشاء ويمضي في طريقه بلا وعي ويسلك الدروب وفق العادة دون تجديد أو تغيير أو ابتكار.
} ثانياً: إنني أدعو صراحة إلى توسيع دائرة الاختيار والبحث في مساحة كبيرة وليست محدودة وفقاً لانتماءات معينة أو ظروف خاصة، ولقد اكتشفت شخصياً من خلال تجوالي بين الجامعات المصرية - والإقليمية منها - أن هناك كفاءات نادرة وعقليات لامعة وأصحاب رؤية متميزة ولكنهم بعيدون عن صانع القرار تطويهم مسافة البعد الجغرافي عن العاصمة كما أنه لا توجد لدينا آليات أمينة للدفع بالكفاءات والإشارة إلى المتميزين من أبناء الوطن.
فما أكثر الكفاءات المغمورة والمواهب المطمورة والقدرات المستبعدة فقد كنا نعاني من قبل من عملية تجريف لذوي الكفاءات وإقصاء لأصحاب القدرات، ويتعين علينا الآن - بعد ثورتين شعبيتين - أن نتخلص من ذلك الداء اللعين والمرض الخطير حتى لا نترك لأساليب الشخصنة أن تتحكم فينا وأن تؤثر في مسار العمل الوطني في مرحلته الجديدة، فمصر الآن بحاجة إلى أبنائها - كل أبنائها - الذين يقفون على أرضية وطنية، والكل يدرك حجم التحديات التي تحيط بنا والمخاطر التي تقف في طريقنا، لذلك أصبح من المتعين علينا أن نراجع في أمانة كاملة عملية اختيار القيادات في موضوعية وتجرد وحياد لا تحكمنا إلا المصلحة العليا للوطن فوق الأشخاص والانتماءات سياسية كانت أم دينية مادام الهدف هو تعظيم العائد على الوطن في هذه المرحلة المهمة التي تمر بها أرض الكنانة.
} ثالثاً: إن المسؤول القادم إلى الوظيفة المهمة يجب أن يملك عقلاً منظماً وذهناً مجدولاً، وأن يمتلك القدرات الإدارية والتنظيمية مع رصيد من الأفكار الجديدة والمبادرات البناءة حتى يستفيد المنصب من صاحبه وليس العكس، ولدينا في مصر من يملكون الأفكار الخلاقة ولكنهم ليسوا إداريين ناجحين ولا يمتلكون خبرات تنظيمية ولكنهم قادرون على ترتيب (فقه الأولويات) ومعرفة الأهم قبل المهم، فنكتفي منهم بصياغة الرؤية وتحديد الأهداف ورسم السياسات ونترك لغيرهم مهمة التنفيذ لأن الحياة تقوم على فلسفة التنميط فلسنا جميعاً على نمط واحد في كل شيء، وقد شاء الخالق أن يجعل التنوع والتعددية فلسفة للحياة وطبيعة للكون.
} رابعاً: إن معدل دوران المنصب في النظم السياسية المستقرة لا يكون بطول المدة التي عرفتها المناصب الوزارية في عهد الرئيس الأسبق مبارك ولا بقصر المدة التي عرفناها بعد ثورة 2011 حتى أصبح الوزير عابر سبيل يمر على مقعده شهوراً ليحظى بلقب وزير سابق، فاستقرار المناصب على نحو متوازن هو أمر ضروري لأنه يوازن بين تجديد الدماء وإعطاء الفرصة للآخر، وبين ثبات السياسات والتوقف عن حالة العبث التي شهدناها في بعض الوزارات مؤخراً نتيجة التغييرات السريعة أو الاختيارات غير المدروسة.
} خامساً: إن المسؤول المسيس أفضل بالتأكيد من ذلك التكنوقراطي البحت الذي لا يرى خارج حدود يومه، ولست أعني بذلك أن حكومة التكنوقراط خطيئة بل إن الدول قد تحتاجها في لحظات التحول أكثر من غيرها، فنحن نريد توازنًا بين الرؤية والسياسة.. بين التفكير والتنفيذ.. بين النظرية والتطبيق.
إن محنة اختيار القيادات في مصر تحتاج منا إلى رعاية واهتمام شديدين، إذ إن تلك القضية الخطيرة تنعكس على مسار العمل الوطني وتبدو مسألة حاكمة لتحقيق الأهداف وبلوغ الغايات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"