أزمة الإعلام المعاصر

02:34 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي

يلقي الجميع باللائمة على الإعلام ويحمّلونه مسؤولية التدهور الثقافي والاجتماعي والارتباك السياسي، وهذا صحيح في جزء منه ولكنه ليس صحيحاً على إطلاقه. فالإعلام لا يتحمل وحده مسؤولية ذلك وليس هو صانع الأحداث ولكنه مستقبل لها، معلق عليها، محاور فيها.
إن العلاقة بين الإعلام وصانع القرار تبدو تماماً كالعلاقة بين «المطبخ» و«حجرة المائدة» فالطهاة يصنعون الطعام، ولكن الذين يتولون تقديمه هم في هذه الحالة رجال الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، ولا يستطيع «النادل» أن يضع على «المائدة» شيئاً لا وجود له في «المطبخ» ولكنه يستطيع أن يضعه في مكان أفضل من غيره، وأن يقدم طبقاً وأن يبعد آخر كيفما شاء، وتلك في الحقيقة هي خطورة مهمة الإعلام في عالمنا المعاصر فهو يختار الخبر الذي يركز عليه والموضوع الذي يستزيد فيه، وهنا تكون عملية الانتقاء والاستبعاد في حد ذاتها عملية تحكمية قد يلعب «الميل السياسي» أو حتى «الهوى الشخصي» دوراً فيها، ومن هنا تبدأ مسؤولية الإعلام الوطني في أن يكون موضوعياً لا يحكمه إلا المصلحة العليا للوطن والرغبة في تحقيق أقصى فائدة للبلاد، وليس ذلك يعني أن يتستر على فساد أو يخشى استبداداً، وضميره الوطني هو الفيصل خصوصاً في بلد مازالت الأمية فيه أكثر من ثلاثين في المئة، فضلاً عن موروث ثقافي معقد وركام طويل من المعتقدات والتقاليد، ولعلي أفصح أكثر من خلال النقاط التالية:
أولاً: لقد قالوا «إن لكل زمان آية وآية هذا الزمان الصحافة» وأنا أضيف إلى ذلك أن الإعلام بكل وسائله من مظاهر الاتصال الحديث الناجم عن «تكنولوجيا» المعلومات قد أصبح قوة هائلة في زماننا بحيث لم يعد فقط انعكاساً للسياسات والمواقف، ولكنه في ظروف كثيرة أصبح صانعاً لها، فهو الذي يقود الرأي العام ويوجه القوى السياسية والاجتماعية المختلفة في اتجاهات متعددة، إن ذلك يعني أننا أمام ظاهرة غير مسبوقة جعلت من العالم «قرية كونية» يستحيل فيها حجب المعلومات أو إخفاء الحقائق، فالمشهد بكامله مفتوح أمام الجميع خصوصاً في ظل العصر «الإلكتروني» وسيطرة «الإنترنيت»، لقد أصبح الإعلام قوة هائلة برع فيه الغرب بشكل ملحوظ ويكفى أن نتأمل إصرار الإعلام المعادي للإسلام على استخدام تعبير الدولة الإسلامية في الإشارة إلى تنظيم «داعش» الإرهابي، رغم أنهم يعلمون الحقائق ولكنهم يستطيعون إنكار الشمس عند اللزوم، وتلك خطورة الإعلام الذي تسيطر عليه عناصر تستهين بالعرب وتحقد على الإسلام وربما كان للجماعات اليهودية المرتبطة عالمياً بالثورة الإعلامية دور في ذلك. 
ثانياً: إن انصراف الإعلام عن القضايا الأساسية وتركيزه على الفرعيات المثيرة والقصص التي ترضي فضول العاطلين مسؤول مسؤولية مباشرة عما يحدث لنا، هل أشار الإعلام إلى تطورات الموقف «الإيراني» في الأسابيع الأخيرة والتحذير الذي أطلقه «المرشد العام» واصفاً «عاصفة الحزم» بأنها تحرك إجرامي، إننا أمام مشهد تختلف فيه الآراء وتكشف فيه «إيران» بشكل واضح عن رؤيتها وأهدافها، ولقد أشار «رفسنجاني» مثلاً إلى أهمية «البحر الأحمر» و«باب المندب» ولم يتحدث عن «مضيق هرمز» ولكنه ذهب بعيداً ليعتبر بلاده وصية على المستقبل العربي كله، إنني أجازف وأقول إن قوى الجوار الإقليمي في غرب «آسيا» وهي «إيران» و«تركيا» و««إسرائيل»» تتفق في هدفٍ واحد وهو إضعاف العرب والسيطرة عليهم وإشعارهم بالعجز وكأنهم كما أقول دائماً «مجموعة أيتام على مائدة اللئام» وهنا لا بد أن نلاحظ أن الإعلام مرآة للواقع يجب أن يعكس ما يراه دون تهويل أو تهوين، كما أنه يجب أن يتصف بالعدالة والتوازن في اختيار الأخبار وانتقاء الآراء لأن ولاءه في النهاية هو للمستهلك مشاهداً أو قارئاً أو مستمعاً. 
ثالثاً: إن الإعلام المصري هو أقدم وأقوى إعلام في المنطقة تاريخياً ويكفي أن نتذكر أن إذاعة مصرية واحدة من القاهرة وهي «صوت العرب» قد سيطرت على العقل العربي في خمسينات وستينات القرن الماضي، وهذا الإعلام الموجة الذي استخدمته «مصر الناصرية» واستمرت بعدها الدولة المصرية على نهج الحشد الإعلامي في القضايا القومية إن هذا الإعلام يتحمل المسؤولية الأولى قبل أجهزة الإعلام العربية الأخرى لأنه هو الذي صنع فلسفة الإعلام الموجه منذ خمسينات القرن الماضي وقد لا تكون «مصر» أكثر الدول العربية «ديمقراطية» ولكنها بالتأكيد المصدر الأول لظاهرة «الرأي العام العربي» منها تنطلق الشرارة وتنتشر الفكرة ويسيطر اتجاه عربي عام يمضي معها، لذلك فإنني أقول لإعلاميينا المصريين تنبهوا لهذه الحقيقة واعلموا أنكم  شئتم أم أبيتم  رواد هذا السياق، نقل الآخرون عنكم وتعلم الكثيرون منكم. 
رابعاً: إن الإعلام العربي الجديد والذي تعد «قناة الجزيرة» نموذجاً له قد جرى توظيفه لخدمة أهداف سياسية معينة ومخططات إقليمية بذاتها وبذلك لعب الإعلام العربي الوافد دوراً كبيراً في تخريب العلاقات العربية العربية وتحويل الاهتمام إلى قضايا فرعية وخلافات قطرية وتبنى أجندات لا تخدم المستقبل العربي ولا تتماشى مع المصالح العليا للأمة. إنني أقول ذلك وأنا أدرك أن توجيه الاتهامات سهل ولكن تحقيق العلاجات هو الأمر الصعب.. فالإعلام في النهاية يجب أن يكون متكاملاً من كل أطرافه بحيث يسمح لنا برؤية صادقة للمستقبل في ظل ظروف دولية ملتبسة وأوضاع إقليمية معقدة. 
خامساً: لقد بدأت ظاهرة جديدة تندرج تحت جرائم النشر بل وجرائم الإعلام عموماً وهي تلك التي تقوم على التشهير والابتزاز ولقد برعت فيها نوعية من غير الموهوبين في بلاط «صاحبة الجلالة» أو المحطات الفضائية والإذاعية وهنا لا بد من تشريع حاسم وسريع يضع الأمور في نصابها بدلاً من أن يظل الأمر رهناً بالتحولات والظروف دون أن تكون هناك قواعد قانونية عادلة تحول دون التجريح وتمنع البذاءة وتوقف سيل الافتراءات. 
هذه ملاحظات ابتغينا منها أن ندق «ناقوس الخطر» حول أزمة الإعلام المعاصر دولياً وعربياً ومصرياً ونحن نقول دائماً إن «مصر» هي القائدة والرائدة ولذلك فإن مسؤوليتها على المستوى الإقليمي مسؤولية كبيرة لأنها مسؤولية الأكبر تجاه أشقائه في غرب «آسيا» وشمال «إفريقيا» و«جنوب الوادي».. إنها دائماً المسؤولية التاريخية للدولة المصرية!
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"