أسئلة التراث والضمير

01:23 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. يوسف الحسن

}} ‬أحاول أن أبتعد عن السياسة،‮ ‬رغم أنها أمر لا‮ ‬غنى عنه،‮ ‬حتى وإن ابتعدنا عنها،‮ ‬ولم نهتم بها،‮ ‬فإن السياسة تلاحقنا،‮ ‬وأينما نولّي ‬وجوهنا،‮ ‬نلقاها بانتظارنا،‮ ‬وكذلك الأمر ‬مع‮ «‬الإيديولوجيا‮»‬،‮ ‬لا نستطيع إغفالها،‮ ‬ولا نقدر على أن ننظر إلى مسائل الفكر والثقافة،‮ ‬نظرة محايدة،‮ ‬من دون أن تحضر‮ «‬الإيديولوجيا‮»، ‬وكذلك الحال مع التاريخ،‮ ‬نظل دائماً‮ ‬مشدودين إلى قراءته،‮ ‬وكثير منا‮ ‬يستحضره،‮ ‬ويستسهل العيش في‮ ‬اللحظة الماضية،‮ ‬ينتقي‮ ‬منها ما‮ ‬يشتهيه من رموز‮ ‬يعتقد أنها أكثر إغراءً‮ ‬من‮ «‬لصوص اليوم‮»‬،‮ ‬ورموزه‮.‬

}} ‬تحضر السياسة والإيديولوحيا والتاريخ،‮ ‬حينما نقرأ التراث العربي‮ ‬الإسلامي،‮ ‬وحينما نفكر في‮ ‬أسئلة الهوية،‮ ‬ومفاهيم المواطنة،‮ ‬ومنظومة القيم المنشودة‮.‬
}} ‬نقرأ التراث ‬لاستيعابه ‬وامتلاكه عقلياً،‮ ‬وإعادة ترتيبه في‮ ‬سياقه التاريخي،‮ ‬وفي‮ ‬ظروفه الحياتية التي‮ ‬عاشها،‮ ‬ندافع عنه،‮ ‬ونستمد منه العبرة ونسعى لتجديده‮.‬
‮}} ‬نعيد قراءته،‮ ‬لكي‮ ‬نعيد بناء الذات العربية المعاصرة،‮ ‬الذات المنفتحة على الفكر العالمي،‮ ‬والتراث الإسلامي‮.‬
}} ‬يحمّّل بعضنا التراث،‮ ‬أكثر مما‮ ‬يحتمل،‮ ‬حين‮ ‬يعطيه قدسية خاصة،‮ ‬تمنع التعامل معه على أساس أنه إنتاج بشري‮.‬

وبعضنا‮ ‬يريد للتراث أن‮ ‬يبقى صنماً‮ ‬ذهبياً‮ ‬لا‮ ‬يُمس،‮ ‬وأنه‮ ‬يحمل الحقيقة النهائية،‮ ‬ويتجاهل هذا البعض من الناس،‮ ‬كون التراث من صنع الإنسان أولاً،‮ ‬وعرضاً متغيراً ثانياً،‮ ‬وتاريخاً ‬زماني‮اً ‬تراكمي‮اً ‬ثالثاً‮.‬

}} ‬إن المفهوم الحقيقي‮ ‬للتراث‮ ‬يكمن في‮ ‬كونه مبتكرات إنسانية،‮ ‬ومنجزات تاريخية ذات ظروف وشروط وملابسات سياسية واجتماعية وقانونية واقتصادية متبدلة،‮ ‬ومن مركباته‮: ‬التراث المادي‮ ‬والتراث الفكري،‮ ‬والتراث الاجتماعي‮ ‬الحياتي،‮ ‬مثل قواعد سلوك وعادات ومنظومات قيم‮.. ‬إلخ‮.‬
}} ‬ومن المهم أن نسجل أن القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة ليسا من التراث،‮ ‬لأنهما العقيدة الإلهية نفسها،‮ ‬أما التراث فهو من صنع بشر مثلنا‮.‬
‮}} ‬أستطيع أن أفهم،‮ ‬لماذا‮ ‬يمتلك هذا التراث كثيراً‮ ‬من الناس،‮ ‬بدلاً‮ ‬من أن‮ ‬يمتلكوه؟ ولماذا‮ ‬يتخذونه ملجأ‮ ‬يهربون إليه من الحاضر،‮ ‬ويظل مجرد حديث مكرور لا‮ ‬يُجدد، ولا نخضعه لحاجاتنا ومشكلاتنا الحياتية الراهنة،‮ ‬ولا نربطه بالعصر،‮ ‬ليبقى حياً‮ ‬فاعلاً‮ ‬ومتطوراً‮.‬
}} ‬أجتهد فأقول‮: ‬إن السبب الأساس،‮ ‬هو أن مجتمعاتنا مأزومة،‮ ‬تبحث عن أجوبة جاهزة لأسئلة الحاضر ومشكلاته وانقساماته وتناقضاته،‮ ‬فضلاً‮ ‬عن كثافة الشعور بالتراث في‮ ‬الوعي‮ ‬الجمعي‮ ‬للشعوب العربية،‮ ‬إضافة إلى اعتبار التراث هو الآلية الدفاعية في‮ ‬وجه نماذج الحداثة الزاحفة‮.. ‬لعل ذلك هو التفسير السائد عند كثيرين‮.‬
‮}} ‬لكن، هل هذا الاجتهاد المشبع بالنيات الطيبة وحده‮ ‬يكفي‮ ‬لفهم هذه الإشكالية؟ أم أن من‮ ‬يركب مركب التراث في‮ ‬هذه الأيام،‮ ‬يريد أن‮ ‬يحتكر تمثيله والقول فيه،‮ ‬وأن‮ ‬يكسب معاركه السياسية والفكرية في‮ ‬الوقت الراهن؟ أي‮ «‬الاستيلاء على الماضي‮ ‬من أجل الاستيلاء على الحاضر‮»!‬

‮.. ‬وبمعنى آخر‮ «‬تسييس التراث وتوظيفه في‮ ‬الجدل السياسي،‮ ‬والعمل السياسي‮»‬؟

‮}} ‬تتداعى إلى الخاطر،‮ ‬أسئلة أخرى،‮ ‬تتعلق‮ «‬بالضمير‮» ‬ونقاء حالة الإيمان من آثار التعصب،‮ ‬والتنزه عن الشعور بالاستعلاء على الآخر المغاير‮.. ‬وهي‮ ‬أسئلة حارقة،‮ ‬تطرق رؤوسنا كل لحظة‮.‬
}} ‬وقرأت ذات‮ ‬يوم،‮ ‬قولاً‮ ‬طيباً‮ ‬لأحد رجال اللاهوت المسيحي‮ ‬في‮ ‬بريطانيا،‮ ‬حينما سئل عن كتاباته ومواعظه الكنسية،‮ ‬تجاه أديان ومعتقدات أخرى‮.. ‬فقال‮: «‬عندما أتحدث أو أكتب ‬نصوصاً‮ ‬عن الأديان الأخرى،‮ ‬أتصور دائماً،‮ ‬أن مسلماً‮ ‬أو‮ ‬يهودياً‮ ‬أو هندوسياً،‮ ‬يقف وراء كتفي،‮ ‬ينظر إلى ما أكتب،‮ ‬ويستمع إلى ما أتحدث فيه،‮ ‬وكأنه‮ ‬يريد مني،‮ ‬أن أقول أو أكتب،‮ ‬ما‮ ‬ينصفه،‮ ‬أو ما‮ ‬يفرحه،‮ ‬وما لا‮ ‬يستفزه ولا‮ ‬يغيظه‮».‬
}} ‬تأملت كثيراً‮ ‬وعميقاً‮ ‬في‮ ‬هذا السلوك الطيب،‮ ‬وهذه الفضيلة الإنسانية، ووجدت أن التعصب،‮ ‬وإن كان في‮ ‬أصله موقفاً‮ ‬فكرياً،‮ ‬فهو في‮ ‬حقيقته وقود الفتن،‮ ‬وأساس الفرقة الممزقة بين أتباع الدين الواحد،‮ ‬فضلاً‮ ‬عن وحدة أهل الإيمان‮.‬

‮}} ‬ويتصل بذلك،‮ ‬مسألة اللغة المزدوجة أو الخطاب المزدوج،‮ ‬حيث‮ ‬يتوجه بعضنا بإحداهما إلى الطائفة أو الجماعة التي‮ ‬ننتمي‮ ‬إليها،‮ ‬وبالثانية المختلفة إلى الطائفة الأخرى أو الجماعة المغايرة أو أتباع الديانة الأخرى‮.‬

‮}} ‬ومن هذا الخطاب المزدوج،‮ ‬تتخلق‮ «‬الحدود الدامية‮» ‬بين المذاهب والطوائف والثقافات،‮ ‬ويورث الشعور بالتميز،‮ ‬وبالتعصب الذي‮ ‬يغري‮ ‬السفهاء من كل جماعة بمن ليس منها‮.‬
}} ‬في‮ ‬صلب‮ «‬حرقة الأسئلة‮»‬،‮ ‬تحضر أسئلة‮ «‬الضمير‮»‬،‮ ‬وشهود الحقيقة وطلاب العدالة‮.‬
‮}}كم رددنا الآيات والأحاديث عن القيم والفضائل،‮ ‬ومناصرة حقوق المستضعفين في‮ ‬الأرض؟ كم رددنا شعارات الرحمة والتسامح والسماحة،‮ ‬بينما سلوكنا مغاير لهذه القيم؟ وكم قرأنا دستور‮ «‬المدينة‮» ‬ووثيقة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى نصارى نجران،‮ ‬بينما‮ ‬يلعن بعضنا شركاء لنا في‮ ‬الوطن،‮ ‬ويسأل الله،‮ «‬أن‮ ‬يُيتم أطفالهم،‮ ‬ويقطع نسلهم‮.. ‬إلخ‮»‬،‮ ‬ويشجع بعضنا مراهقين على قتل وذبح وتفجير‮ «‬أنفس‮» ‬مسلمة وغير مسلمة‮.‬
‮ }} ‬أين هو‮ «‬الضمير‮» ‬الديني‮ ‬والإنساني‮ ‬في‮ ‬الثقافة السائدة،‮ ‬وفي‮ ‬مناهج التربية الإسلامية،‮ ‬وفي‮ ‬خطبنا ومواعظنا وفضائياتنا؟

أي‮ «‬ضمير‮» ‬ديني‮ ‬يزين لشباب وحتى علماء، ممارسة الغلو والظلم والاستعلاء والإقصاء وتبرير القتل والتهجير والعسف تجاه شركائهم في‮ ‬الأرض والتاريخ والثقافة واللغة والدين والجوار والعيش المشترك؟

‮}} ‬ما الذي‮ ‬دفع‮ «‬راشيل‮»‬،‮ ‬الفتاة الأمريكية اليهودية،‮ ‬إلى أن تهب دفاعاً‮ ‬عن هدم بيوت الفلسطينيين؟ كيف تسرب إلى عقلها‮ (‬قبل أن تسحقها جرافة‮ «‬إسرائيلية‮») ‬أن هؤلاء هم أصحاب حق؟ لاشك أنه‮ «‬الضمير‮» ‬الإنساني،‮ ‬المتسلح بفكر منطقي‮ ‬وعقلاني،‮ ‬والذي‮ ‬يستميت في‮ ‬نصرة المظلوم،‮ ‬أينما كان،‮ ‬ومهما كان لونه أو جنسه أو وطنه أو عقيدته‮.‬
}} ‬أي‮ «‬ضمير‮» ‬ديني‮ ‬وإنساني‮ ‬هذا،‮ ‬الذي‮ ‬يسعى إلى السلطة والحكم،‮ ‬على جثث مئات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال،‮ ‬وتدمير مجتمعات وتهجير الملايين،‮ ‬وتحويلهم إلى متسولين وبؤساء ولاجئين في‮ ‬شتى أنحاء الأرض؟
‮}} ‬أي‮ «‬ضمير‮» ‬ديني‮ ‬وإنساني،‮ ‬وعيناه وعشناه وخبرناه،‮ ‬فأضمرناه في‮ ‬نفوسنا،‮ ‬وحملناه معنا أينما توجهنا،‮ ‬وكأنه دليل هاد‮ٍ ‬يرشدنا؟
}} ‬إنه سؤال‮ ‬يؤرق الوجدان‮.. ‬نطرحه على ذواتنا‮.. ‬لكي‮ ‬نستردها‮.. ‬ونستعيد الوعي،‮ ‬والثقة بالنفس،‮ ‬وبالمشترك الإنساني،‮ ‬ونوظف روح التراث الحية والمتحركة،‮ ‬في‮ ‬مسار الخروج من هذا الكرب الشديد‮.‬ ‮ ‬

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"