أقنعة المغامرة

03:02 صباحا
قراءة 6 دقائق
د. يوسف الحسن

}} في طنجة، المدينة المغربية، نقطة التقاء البحر الأبيض المتوسط بالمحيط الأطلسي، وإفريقيا بأوروبا، قصة طريفة، سمعتها ثم قرأت عنها في أحد إصدارات جامعة مغربية.

}} تبدأ القصّة، حينما شيَّد الإسبان في عام 1943، تمثالاً حجرياً، لرجل شرقي الملامح، مهيب وملتحٍ، على رأسه عمامة، وكتب لتعريفه بحروف لاتينية (علي باي العباسي)، ووضعت أمام التمثال، لوحة معدنية، يظهر فيها رسم للسلطان المولى سليمان، ممتطياً حصانه، وأمامه (علي باي العباسي) منحنياً بجسده، ويقدم للسلطان هدايا.

}} ونشر الإسبان على الناس، حكاية (علي باي العباسي)، وفيها أنه محارب و«مجاهد»، جاء إلى طنجة عام 1803، بجيش من المتطوعين المغاربة، لاسترداد الأندلس (الفردوس المفقود)، واستمرّ الاعتقاد الشعبي بهذه الحكاية، نحو نصف قرن، وسماه المغاربة (سيدي علي باي) الولي الشريف.

}} في مطلع التسعينات من القرن الماضي، شهدت مدن مغربية عديدة، تظاهرات شعبية احتجاجاً على التدخل الأمريكي في العراق، أما مدينة طنجة، فقد استمع أهلها إلى خطبة في المسجد الواقع في ساحة التمثال المذكور، وكان المسجد يحمل أيضاً اسم (سيدي علي باي)، وأثارت الخطبة حماس المصلِّين، خاصة حينما أشار الخطيب، إلى وجود تمثال لجاسوس إسباني، على بعد أمتار من المسجد. وفي الأيام التالية، خرجت مسيرات متضامنة مع العراق، وتذكَّر المتظاهرون من أبناء طنجة، ما قاله خطيب المسجد، بشأن تمثال الجاسوس (علي باي)، فهاجموا التمثال وحطّموه.
}} لم يلتفت أحد، طوال نصف قرن، إلى حقيقة هذا التمثال، رغم أن كاتباً مغموراً، نشر مقالاً صغيراً، في جريدة طنجة، قبل ربع قرن، يشير فيه إلى أن التمثال، هو لشخصية إسبانية مغامرة اسمها (دومينغو فرانشيسكو باديا).
}} وتعود قصة هذا الجاسوس الإسباني، إلى مطلع القرن التاسع عشر، حينما تنكَّر بشخصية عربي مسلم، بتكليف من رئيس وزراء إسبانيا، لعبور المغرب وليبيا وزنجبار، لعقد تحالفات سياسية لصالح العرش الإسباني، والتركيز على المغرب، بهدف تحريض ودعم المتمردين ضد السلطان.
}} ولإعداد نفسه كجاسوس، سافر إلى إنجلترا وفرنسا، ودخل إلى طنجة باسم (علي باي العباسي)، وحفيد لأحد أمراء الشام. وقد أثار انتباه الناس، من خلال كرمه وسخائه على الفقراء، وتقديم الهدايا إلى كبار المسؤولين في المدينة، فضلاً عن إبراز مواهبه «الخارقة» في التنبؤ بكسوف الشمس.
}} وتوثقت علاقاته بالأعيان والعلماء، وكسب ثقة السلطان المولى سليمان أثناء زيارة الأخير لمدينة طنجة، ودعاه للانتقال معه، ومنحه العديد من الامتيازات، كما نجح (علي باي) في تأدية الطقوس الإسلامية، بما فيها الزواج والصلاة والحج وأداء الزكاة، ودوَّن رحلاته إلى إفريقيا، وقدَّم عدة مشاريع لإقناع السلطان بمنح إسبانيا عدداً من الامتيازات التجارية، ودعَّم معارضي السلطان سرّاً.
كما قدّم إلى السلطان، مشروع دستور (عصري)، كتبه باللغة الفرنسية، وسمَّاه دستور (علي باي)، ورسم لنفسه فيه، دوراً رئيسياً في تنفيذ الدستور، واختيار وريث للعرش من بين أبناء السلطان، ووضع بنداً في الدستور، ينصّ على الاعتراف بأن (الحاج علي باي العباسي) هو: «الأمير الشرعي الورع والشريف والدكتور والحاج، خادم بيت الله».
}} ويبدو أن هذا المشروع، كان هو القشّة التي قصمت ظهر البعير، فقد رفض السلطان مشروع الدستور، وغضب على صاحبه، وقام السلطان بطرد (علي باي) من طنجة، «وجرّده من نسائه وخدمه».
وتذكر مصادر مغربية، أن المدعو (علي باي)، توفي ودفن على الطريقة الإسلامية في قلعة (البلقاء) بالأردن، وهو في طريقه لتأدية فريضة الحج.
}} لكنّ مصادر بريطانية، تشير إلى أن هذا الجاسوس المغامر، غيّر اسمه إلى (الحاج علي أبو عثمان)، وذهب إلى دمشق في عام 1818، حيث تم اكتشافه من قبل المخابرات البريطانية، وقيل إن هذه المخابرات دسَّت له السمّ بعد دعوة للعشاء، في إطار المصالح الاستعمارية المتعارضة.
}} لم تنته قصة هذا الجاسوس، بعد هدم تمثاله في طنجة، إنما تحوّلت قصته إلى رواية حديثة، كتبها مؤلف إسباني (رامون مايراتّا)، وعنوانها: (علي باي العباسي «مسيحي في مكّة») (الناشر: ورد للطباعة والنشر)، ويقول مؤلفها إنها «المغامرة المنقطعة النظير للرجل الذي عاش، بتركيز المواجهة بين الشرق والغرب».
}} شخصية أخرى غامضة ومغامرة وغريبة الأطوار، رآه كثير منّا جاسوساً ذكياً ونشطاً اندسّ بين العرب، وقدّمه كتّاب غربيون كثر، كأسطورة وبطل شعبي، أتقن اللغات العربية والفرنسية والألمانية والإيطالية، بدأ حياته كمحاضر في علم الآثار، ومنقّب عنها في بلاد الشام، وكمصور وهاوٍ لقيادة الدراجات النارية، وقيل عنه، إنه قبل وفاته، تنكّر في هيئة رجل دين، يشفي المرضى، وخاصة حينما غادر إنجلترا مسقط رأسه، وسافر - كجاسوس - إلى البنجاب، أما في الجزيرة العربية، فقد تحول من عالم آثار، إلى جندي إنجليزي مغامر، ينظّم ويجيِّش رجالاً من القبائل العربية لمحاربة الأتراك في عام 1916.
}} (الكولونيل توماس إدوارد لورانس) الشهير باسم (لورانس العرب)، رجل غريب في كل أطوار حياته، اختار دراسة «الهندسة العسكرية للحروب الصليبية»، موضوعاً لرسالته في جامعة أكسفورد، دخل العراق ولبنان وسوريا، ودرس تقاليد الناس هناك، وتجول في هذه البلدان بملابس عربية، ودرس آثار نينوى وبابل وغيرهما وعاد إلى إنجلترا بكثير من قصص الشرق.
}} أمضى هذا المغامر، نحو سبع سنين، وهو يتجول في فلسطين وسيناء، لصالح «صندوق استكشاف فلسطين»، وهو الصندوق الذي موَّل رحلات الاستكشاف، التي غيَّرت الأسماء العربية لقرى وجبال وآبار ومواقع، ورسمت خرائط فلسطين، وفقاً لأسماء توراتية، وخدمة لمشروع سياسي سيفرض نفسه على خريطة الشرق الأوسط في العقود التالية، وأعني به إقامة دولة لجماعات يهودية مطرودة من أوروبا، على أرض شعب آخر.
}} كانت خبرة (لورانس) في بلاد الشام والجزيرة العربية وتركيا وفارس، فريدة من نوعها، لغة وأرضاً وعادات وتاريخاً، ما أهَّله للالتحاق بدائرة الاستخبارات البريطانية، والتي تعاملت بشكل رئيسي مع شؤون المنطقة العربية، خلال الحرب العالمية الأولى، وأصبح (لورانس) هو المسؤول الأول عن العملاء المحليين الذين كانوا يعملون داخل صفوف الأتراك.
}} انخرط (لورانس) في قلب حركة (الثورة العربية الكبرى) التي قادها الشريف حسين بن علي، وكانت قد نجحت في طرد الأتراك من مكّة ومدن أخرى، وهنا ظهر (لورانس)، الذي كان يعمل في مقر القيادة البريطانية العسكرية في القاهرة، وعبر البحر الأحمر في طريقه إلى جدة، والتقى مع أبناء الشريف حسين في عام 1916، وبدأ يسهم في تعبئة جيش غير نظامي، لطرد الأتراك من الجزيرة العربية،.. والوصول إلى مدينة العقبة في يوليو/تموز 1917.
}} ذهب (لورانس) إلى فلسطين مراراً، ليجتمع مع قائد القوات البريطانية، الجنرال (آللينبي) الذي احتلّ القدس في ديسمبر/كانون الأول1917 ، وقال وقتها: «الآن، انتهت الحروب الصليبية». وفي العام نفسه 1917، وقَّعت فرنسا وإنجلترا اتفاقية سايكس - بيكو، وفي هذا العام الأسود نفسه صدر وعد بلفور في نوفمبر/تشرين الثاني 1917.
}} عرفت أجيال عربية (لورانس)، من خلال الفيلم الذي حمل اسمه، وأنتجته هوليوود، بأسلوب فني رفيع، وشارك فيه ممثلون كبار من نجوم السينما في ستينات القرن الماضي، من أمثال: عمر الشريف وأنطوني كوين وبيتر أوتول، وارتسمت صورة (لورانس) في مخيالنا، كما صورها هذا الفيلم السينمائي، قامة طويلة ذكية، حليق الذقن، وعينان زرقاوان، يرتدي عقالاً صوفيّاً مجدولاً بخيوط فضيّة وذهبيّة، وكوفية وعباءة سوداء سميكة، وتحتها رداء أبيض، وفي «حزامه» خنجر قصير معقوف.
}} كان (لورانس) شديد التحمل، سافر ورجاله من مكّة إلى حلب على ظهور الجمال، وكان يفاخر بقدرته على تفجير السكك الحديدية المسماة (خط سكة حديد الحجاز)، والتي كانت تحمل الجنود الأتراك.
* ما زالت في الذاكرة، صورة الزعيم البدوي عودة أبو تايه، شيخ قبائل الحويطات، وهو يجادل (لورانس) في اجتماع قبائلي، وفق ما ورد في فيلم (لورانس العرب).
* نجح (لورانس) في التخفي، لَبِس زيّ امرأة بدوية، ولَبِس الكوفية والعقال والعباءة، لأنه كان يعتقد بأنه بهذا اللباس، «يكسب ثقة العرب وصداقتهم»،.. وربما كان يقصد بقوله هذا، إنه يستطيع خداعهم!!
في مايو/أيار من عام 1935، توفي (لورانس) في حادث دراجة نارية.

}}}

شخصية أخرى، لرحّالة بريطاني اسمه (بنكجهام) يعشق السفر والمغامرات، لم يتعب من الأسفار وقرر الانضمام للحملة العسكرية البريطانية على رأس الخيمة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1816، ولأنه مغامر طاف بلاد الشام، ووصل إلى بوشهر، فإنه قرر النزول إلى البرّ، من سفينة عسكرية بريطانية، كانت ترسو في ميناء رأس الخيمة، وأثناء تجواله في المدينة لجمع المعلومات، أمسكت به مجموعة من صبية رأس الخيمة، ونتفوا لحيته الطويلة، وأركبوه حماراً بالمقلوب، وساروا به في شوارع المدينة، وسط مظاهر السخرية والازدراء، وفي نهاية المطاف، قاموا بتسليمه إلى القوّات الغازية، وهي تستعدّ لقصف رأس الخيمة بالقنابل.

}} البريطاني الرحالة (بنكجهام).. انكشف في رأس الخيمة، رغم قناع المغامرة.
.....
.....
أقنعة المغامرة، متعدّدة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"