أمة لا تمارس حسم الأمور

01:37 صباحا
قراءة 3 دقائق

يحار الإنسان في أمته العربية حتى يصل إلى مراحل الشكوك المحبطة الغاضبة . لنأخذ أحد الموضوعات المحيرة، موضوع عدم القدرة وغياب الإرادة في حسم الأمور الكبرى التي تواجهها الأمة . تمرُ السنون والقرون من دون الوصول إلى حسم جمعي، نعم جمعي من قبل الغالبية الساحقة من الناس وليس من قبل هذه المجموعة المثقفة الصغيرة أو تلك المجموعة السياسية الهامشية .

دعنا نذكر أنفسنا ببعض تلك الأمور التي واجهتها الأمة عبر الخمسة عشر قرناً الماضية، ولنبدأ بفاجعة موت نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم .

ما أن يدفن الجسد الطاهر حتى ينفجر موضوع خلافة النبي . يبدأ كخلاف سياسي قابل للفهم لينتقل إلى خلافات مذهبية متطاحنة تشقُ الدين الوليد وتأخذه إلى متاهات تتشابك فيها السياسة وأطماع الدنيا بهلوسات غيبية وأمراض اجتماعية حتى النخاع .

هذا موضوع في التاريخ، له أسبابه وموجباته وسوء التصرف بحقه في حينه . لكن تمرُ القرون والموضوع باقٍ معنا، بنفس وحدة المشاعر الغاضبة، بنفس الشتائم الوقحة، من دون إدخاله بشكل حاسم كموضوع من التاريخ، من دون إخراج لخلاف تاريخي من الاختلافات الفقهية الاجتهادية، لكأن الأمة تريد أن تُبقي الموضوع في وعيها الجمعي كلعنة أبدية .

لنذكر أنفسنا بموضوع ثان . إنه موضوع الملك العضوض الذي دشنه الخليفة معاوية . لقد انقلب ذلك الحدث السياسي إلى قراءة فقهية بعدم جواز الخروج على ولي الأمر، بل طاعته حتى لو كان ظالماً في أمور الدنيا ومصالح العباد، وذلك اتقاءً للفتنة .

حسناً، حتى لو وجدنا في ذلك الحين مبررات لذلك الخوف على الدين الوليد وأمته، هل يعقل أن يبقى ذلك الخوف في وعي الأمة الجمعي حتى يومنا هذا؟ لكنه باق معنا بالرغم من أن ذلك الفهم يتناقض كلياً مع متطلبات قيام الأنظمة الديمقراطية التي أصبحت جزءاً مهماً وعميقاً من الوعي الجمعي الإنساني .

لكأن الأمة تريد بقاء لعنة الاستبداد والحكم الظالم كجزء أصيل من حياتها السياسية إلى الأبد . لو سألت أي فرد في بلدان مثل فرنسا أو إنجلترا أو أمريكا عن نظام الحكم الذي لايمكن أن يقبل بسواه، فإن الجواب القاطع هو أنه لن يقبل قط بنظام غير ديمقراطي . تلك الأمم حسمت أمرها مع موضوع نظام الحكم في وعيها الجمعي . أما عندنا فإن الأمر لم يحسم بالرغم من أهوال ومخازي ومظالم واستباحات فكر ونظام الملك العضوض .

دعنا ننتقل إلى العصر الحديث . الموضوع في هذه المرة هو الوحدة العربية، وحدة الأمة بمفهومها الحديث ومن ثم وحدة تراب الوطن بالشكل المناسب . يستيقظ ذلك التوق بعد سقوط الخلافة العثمانية، يتجسد فكراً وتنظيماً في كتابات وأحزاب وحركات إلى أن يصل إلى قمته في زخم الناصرية الهائل . لقد دخلت آنذاك مشاعر العروبة وآمال الوحدة العربية في نفوس وعقول الملايين وأصبحت جزءاً من عمق الوعي الجمعي العربي .

لكن ترتكب الأخطاء ويموت القائد وتتكالب قوى الخارج والداخل، وإذا بذلك الزخم يتراجع وترتفع رايات الخصوصية القطرية لتشويه وغواية الوعي القومي الجمعي .

تمر أربعة عقود لتنكشف هشاشة التوجه القطري وتصبح جميع الأقطار نهباً للغريب المستعمر والصهيوني وتتعثر التنمية إلى حدود الفواجع . ومع ذلك يظل الموضوع غير محسوم إلى هذه اللحظة في الوعي الجمعي . وحتى حراكات الربيع العربي الثورية الرافعة للشعارات الكبرى لم تحاول أن تحسم الموضوع في

أذهان الملايين من مناصريها وداعميها . لكأن الأمة استمرأت العيش مع اللعنات لتضيف لعنة التجزئة والتفتيت للمجتمعات والأوطان .

القصة تطول . هل نذكر بمرور قرنين من دون حسم للأصالة والحداثة، لإمكانية تعايش المشاعر الوطنية مع القومية مع الإسلامية من دون حروب وصراعات، لإمكانية تعايش مشاعر الانتماء السوسيولوجي للقبيلة والدين والمذهب مع الانصهار في المواطنة الجامعة، لموضوع تساوي حقوق المرأة الكاملة بتميزها الطبيعي والنفسي أمام حقوق الرجل الكاملة بتميزه الطبيعي والنفسي؟

أمام هذا التاريخ من عدم الحسم يطرح السؤال المرعب الآتي نفسه: ترى هل سنضيف إلى تلك القائمة الطويلة من عدم الحسم موضوع الجهاد التكفيري الطائفي العبثي، الذي يقسم الأمة بين مؤيد مصفق وإلى رافض مشمئز، والذي شيئاً فشيئاً ينقلب إلى مذهب له منظروه ومحلّلوه وإلى فرق لها داعموها ومحتضنوها؟ ترى هل سيصبح هذا الموضوع لعنة جديدة في حياة الأمة لعدة قرون أخرى؟ القائمة تطول إلى حد الغثيان .

موضوع عدم القدرة على الحسم هو مرض نفسي معروف يصيب الأفراد، وله علاج . فإلى متى سيظلُ المفكرون والكتاب والقادة والسياسيون العرب يتلهون بفلسفات وتقليعات وهرطقات الآخرين من دون التركيز والتفرُغ شبه التام لمساعدة الأمة لحسم الخروج من مصائبها؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"