أمريكا المنسحبة من نظامها العالمي

05:28 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبد الخالق

في تعليقه على حال النظام العالمي الليبرالي المتداعي، يستحضر الخبير السياسي الأمريكي ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية، كلمات للفيلسوف الفرنسي الشهير فولتير علق بها على تدهور أحوال الإمبراطورية الرومانية المقدسة بعد مضي نحو ألف عام من وجودها بقوله: لم تكن مقدسة ولا رومانية وليست إمبراطورية. اليوم وبعد نحو قرنين ونصف القرن من هذه السخرية اللاذعة، يعتبر هاس أن النظام العالمي الليبرالي المتهرئ ليس ليبرالياً ولا عالمياً ولم يعد نظاماً.
كثيرون غير هاس يشاركونه رأيه القاسي بعد أن استبد بهم القلق وهم يراقبون بلا حول ولا قوة تحلل النظام العالمي لاسيما منذ انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وتطبيقه لشعاره الأثير «أمريكا أولاً» بما ترتب عليه من تراجعه عن كثير من التزامات بلاده الخارجية، أو صدامها مع الحلفاء والشركاء.
الأمثلة على ذلك كثيرة: قراره الأخير بفرض رسوم جمركية على واردات الحديد والألمنيوم مما يهدد بحرب تجارية مع الشركاء. انسحابه من اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادي، انسحابه من اتفاقيات باريس للمناخ، تحفظه على اتفاق التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، سعيه للانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، إثارته للشكوك حول الوفاء بالالتزامات تجاه حلف الناتو.
مثل هذه المواقف والقرارات طرحت تساؤلات عن مصير النظام العالمي الذي أقامته الولايات المتحدة وقادته ودافعت عنه طوال سبعة عقود، نجح خلالها في منع نشوب حرب عالمية ثالثة. اليوم تتداعي قيم ومؤسسات هذا النظام بسبب ما يعتبره المحللون من أمثال هاس تراجعاً أمريكياً خطيراً عن مساندة تلك القيم والمؤسسات. بل إن المواقف الأمريكية الأخيرة وجهت ضربات موجعة للنظام بما قد يعجل بانهياره في نهاية المطاف.
وتواجه المكونات الثلاثة لهذا النظام وهي الليبرالية والعالمية والهيكل التنظيمي قدراً متساوياً من التحديات، كما تعاني من عدم اكتراث أمريكا بالدفاع عنها. الليبرالية كتوجه انفتاحي تحرري سياسي واقتصادي تتراجع عالميا تحت وطأة المد الشعبوي الجارف الذي كان أحد الأسباب التي حملت ترامب نفسه إلى البيت الأبيض.
غير بعيد عن ذلك تشتعل الروح القومية المحلية لدى شعوب البلدان النامية والمتقدمة على السواء. وبسبب المشاعر القومية المتأججة أو المد الشعبوي الهادر أو للسببين معاً فإن الأحزاب المتشددة تفوز حاليا في الانتخابات بالغرب والشرق على السواء. وفي هذا المناخ المحتقن تتراجع قيم المساواة والتعايش السلمي بين الثقافات والأعراق، واحترام «الآخر المختلف»، وينتصر التعصب والروح الانعزالية لصالح الانكفاء إلى الداخل على نحو ما حدث في التصويت البريطاني للانسحاب من الاتحاد الأوروبي. كل هذا يضعف بلا أدنى شك ثقافة العولمة التي سعت الولايات المتحدة والغرب إلى ترسيخها منذ تثبيت أقدام النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية.
ومع طغيان التوجهات القومية وتفشي الشعبوية وسيطرة اليمين المتشدد على الإدارة الأمريكية كان من الطبيعي أن يتم تهميش مؤسسات النظام العالمي، وأن تضعف فاعليتها وهو ما يهدد استمرار قيامها بوظيفتها. في مقدمة تلك المؤسسات الأمم المتحدة التي تأسست لدعم السلام العالمي، والبنك الدولي وهدفه الأساسي تحقيق التنمية الاقتصادية، ثم صندوق النقد الذي يسعى لدعم التجارة والاستثمار العالميين.
المعنى الواضح هو أن كل مكونات النظام العالمي وأفكاره وفلسفته تتعرض للتخريب والتقويض ولا تتصدى واشنطن للدفاع عنها، بل قد تشارك أحيانا في عمليات الهدم. بالتزامن مع هذا يشهد العالم محاولات دؤوبة لإقامة كيانات إقليمية موازية للمؤسسات الدولية، وبما يعني وجود عملية مستمرة لتشكيل وصياغة نظم عالمية إقليمية بديلة.
خلاصة ما يذهب إليه الخبراء المعنيون أن فلسفة «أمريكا أولا» ومنظومة النظام العالمي الليبرالي مفهومان متناقضان، ولكي يبقى أحدهما لابد أن يختفي الآخر. غير أن ترامب ليس بالرجل الذي يتخلى عن قناعاته، وبالتالي فالنتيجة المباشرة هي مزيد من تدهور أحوال النظام العالمي، وربما احتضاره إلا إذا تدخل الناخب الأمريكي في الوقت المناسب.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"