أمريكا تناقض نفسها

02:29 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. لويس حبيقة*

من أهداف الرئيس ترامب إلغاء الدين العام خلال 8 سنوات، أي خلال عهديه الحالي واللاحق. هل يمكن له تحقيق هذا الهدف الكبير عبر برنامجه المعلن أي تخفيف الضرائب على الشركات، رفع الإنفاق على الدفاع وزيادة الاستثمارات في البنية التحتية.
لا شك أن التاريخ سيصف دونالد ترامب بالرئيس ال
مختلف مهما كانت نتائج حكمه في السنوات المقبلة. هل يفشل أو ينجح وما هي مقاييس النجاح أو الفشل؟ هل نجاحه هو نجاح لأمريكا وهل فشله هو فشل لأمريكا؟ هنالك من يعتقد أن خلاص أمريكا يكمن في فشل ترامب وعدم تحقيقه ما وعد به، وهنالك أيضاً وطبعاً من يعتقد العكس تماماً.
يقول ترامب إنه يريد إعادة العظمة إلى أمريكا. ماذا تعني العظمة وما هي مواصفاتها؟ في رأينا أن أمريكا كانت وما زالت الدولة الأهم والأعظم في العالم. فعن أي حقبة من الزمن يتكلم حتى نقارن الوضع الحالي بالماضي؟ في الواقع، أمريكا اليوم هي أغنى من أي وقت مضى، لكن المشكلة تكمن في سوء توزيع الدخل والثروة بين المواطنين. فالدخل الحقيقي للنصف الأفقر من الشعب ارتفع 21% فقط بين سنتي 1980 و2014 مقارنة ب194% لل1% الأغنى.
لذا يشعر الفقراء أن أوضاعهم لم تتحسن بما فيه الكفاية خاصة مقارنة بالأغنياء، فانتخبوا ترامب انتقاماً أو لتحسين أوضاعهم.
نسبة البطالة الأمريكية في حدود 4.7% وتحسد عليها، علماً أن الاقتصاد يخلق أكثر من 200 ألف فرصة عمل شهريا. ثقة المستهلكين قوية وأسعار الأسهم مرتفعة ويجب التنويه بسرعة معالجة مشكلة «الركود الكبير» والانتقال منها إلى النمو الإيجابي المعتبر. لكن السياسات «الترامبية» المخفضة للضرائب على الشركات من 35% إلى 15% لن تحسن أوضاع الفقراء كما أن سياساته الصحية ستخرج العديد منهم من الرعاية الصحية «الأوبامية» إلى المجهول القاسي.
المطلوب من ترامب سريعاً رفع معدلات النمو التي وحدها تحسن أوضاع الجميع وترفع مستوى المعيشة خاصة للعمال. كيف يمكن تحقيق هذا الهدف المهم في أي دولة وليس في أمريكا فقط؟ المطلوب سياسات متعددة متجانسة تسمح بالوصول إلى الهدف.
أولاً: العمل أكثر.. أي رفع ساعات العمل بالإضافة إلى زيادة إنتاجية العامل أو ساعة العمل. يمكن تحقيق هذا الهدف عبر الاستثمار أكثر في التدريب والتعليم والتجديد والابتكار. تحتاج أمريكا إلى عمالة من الخارج كي تحقق الهدفين، أي عمالة رخيصة ومنتجة كما أدمغة تأتي إليها وتساهم في رفع الإنتاجية وزيادة البحبوحة الاقتصادية. تكمن المشكلة في أن ترامب ضد الهجرة عموماً والتي كانت أحد أهم مصادر النجاح الأمريكي عبر العقود والقرون الماضية. لن يستطيع الرئيس الأمريكي تأمين ما تحتاج إليه الشركات من عمالة وأدمغة من الداخل فقط وهذا معروف حتى في مراكز البحوث الخاصة والرسمية. فالتضييق على التأشيرات لن يصب في مصلحة الاقتصاد الأمريكي. يكمن الخوف أيضا في أن العديد من الذين أيدوا ترامب سيخسرون وظائفهم إذا ضاقت الأوضاع الداخلية والخارجية أمام الشركات الأمريكية.
ثانيا: هنالك تقدم تكنولوجي عام وواضح لا يمكن مواجهته بالانغلاق الاقتصادي والتجاري. مثلا، هنالك الشاحنات التي تسوق نفسها مما يعني عملياً إدخال السائقين إلى جيش العاطلين عن العمل. كيف يمكن معالجة أوضاع 1.7 مليون سائق شاحنة معدل دخلهم الفردي السنوي 42500 دولار؟ لا نرى أو نسمع عن مشروع لمعالجة مشكلة هؤلاء الأشخاص. هل نعالج أوضاعهم ببناء الجدار بين أمريكا والمكسيك أو بإلغاء أو إعادة المفاوضات بشأن الاتفاق التجاري بين الدول الأمريكية الشمالية الثلاث؟ هل تعالج هذه الأوضاع بإلغاء اتفاقيات تجارية مع آسيا وأوروبا وإدارة الظهر لموضوع التغير المناخي؟
ثالثا: لا يمكن حل الموضوع التجاري عبر التهديد وإلغاء الاتفاقيات، بل عبر تحسين وتطوير الإنتاج الداخلي وتصديره إلى الخارج. يحتاج التصدير إلى إبقاء الاتفاقيات وتطويرها وليس إلى إلغائها وإنشاء جدار حقيقي أو معنوي أو نفسي مع الخارج. في سنة 2015، استوردت أمريكا ما قيمته 482 مليار دولار من الصين وصدرت لها 116 مليار دولار. هل تعتبر الصين مذنبة، خاصة عندما يكون المستثمرون في الصين غربيين وأمريكيين ويساهم الاستيراد في إبقاء التضخم منخفضاً في الغرب وفي أمريكا تحديدا؟
من المواضيع الأساسية التي تواجه ترامب اليوم أيضا الصحة، حيث تشير الإحصائيات إلى أن أمراض القلب هي المسبب الرئيسي للموت خاصة المبكر في الولايات المتحدة. هل نقض النظام الحالي دون بديل يساهم في معالجة أمراض القلب والسمانة المسببة لها كما غيرها من الأسباب؟
لم نسمع اهتماماً بهذه الأمور الخطيرة التي تتطلب المعالجة الطبية والصحية كما التوعية المباشرة والعلمية. بالرغم من الإنفاق الكبير على الصحة، يبقى العمر المرتقب الأمريكي منخفضا نسبيا أي 77 سنة مقارنة ب 79 في كل من سويسرا والسويد و81 سنة في اليابان. هذا بالرغم من أن الولايات المتحدة تنفق 13% من الناتج على الصحة مقارنة ب 11% في سويسرا، 10% في ألمانيا و9% في فرنسا. ما نسمعه ونعرفه عن مشروع ترامب الصحي لا يعالج مشكلتي الإنفاق والنتائج، بل ربما يزيدهما حدة خاصة للطبقات الوسطى وما دون. المطلوب ليس فقط تخفيض التكلفة، بل بناء نظام جديد متكامل وقائي وعلاجي ربما على الطريقة الكندية أو الكوبية حتى لا نقول الأوروبية.
من أهداف الرئيس ترامب إلغاء الدين العام خلال 8 سنوات، أي خلال عهديه الحالي واللاحق. هل يمكن له تحقيق هذا الهدف الكبير عبر برنامجه المعلن أي تخفيف الضرائب على الشركات، رفع الإنفاق على الدفاع وزيادة الاستثمارات في البنية التحتية. في الواقع نسبة الضريبة على أرباح الشركات الأمريكية هي الأعلى بين الدول الصناعية بنسبة 35% (يريد ترامب تخفيضها إلى 15%) مقارنة ب20% في بريطانيا، 16% في ألمانيا، 15% في كندا و13% في أيرلندا. كما أن الولايات المتحدة تفرض ضريبة 35% على الأرباح المحققة في الخارج (يريد ترامب تخفيضها إلى 10%) عندما تدخل الأراضي الأمريكية، لذا أبقت الشركات في الخارج مجموع أرباح يبلغ 2.5 تريليون دولار كان يمكن استثمارها في الاقتصاد.
تخفيض الضرائب يمكن أن يكون مفيدا، لكن النتائج المرجوة تأخذ الوقت الطويل كما تشير إليه التجارب الدولية المماثلة. لا بد من أخذ النصائح من المؤسسات الدولية والاستفادة من تجاربها.
أخيراً، هل يمكن أن تؤدي هذه البرامج سوية إلى تخفيف العجز المالي وتحقيق فائض سريع لتسديد الدين العام. ينجح ترامب إذا تحقق نمو قوي سريع أي 5% سنويا على الأقل بدءاً من 2017، وهذا تفاؤلي نظراً للعلاقات الخارجية المتشنجة مع المكسيك وأوروبا وآسيا. ينجح ترامب إذا تدفقت الاستثمارات إلى أمريكا وهذا ما يهدف إليه تخفيض النسب الضرائبية على الشركات. لكن الاستثمارات لن تتدفق قبل معالجة العديد من الإجراءات والقوانين التي يحتاج تعديلها أو إلغاؤها إلى تعاون مجلسي النواب والشيوخ وهذا ليس مؤكداً كما شهد عليه التصويت على تعيين القاضي التاسع في مجلس القضاء الأعلى وكما يشهد عليه التصويت على الإصلاح الصحي الذي ربما يخلق مشكلة بين المجلسين التشريعيين. في الواقع، يهم النواب والشيوخ إعادة انتخابهم من قبل الشعب ولا يمكنهم المغامرة بإصلاحات أو تغييرات ضبابية تسبب لهم الفشل الشعبي.

* خبير اقتصادي لبناني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"