أوروبا مع ماكرون

03:37 صباحا
قراءة 5 دقائق
د.لويس حبيقة

لم يقتصر الزلزال «الماكروني» على ضرب وحدة حزب الجبهة الوطنية، بل أدخل الخلل إلى قلب أحزاب اليمين واليسار التي تواجه التفتت. فرنسا تغيرت ولا بد للأحزاب السياسية من أن تعكس هذا التغيير في العقلية والأهداف والمصالح والرؤية وإلا زالت.
قبل انتخاب ماكرون رئيساً كانت الوحدة الأوروبية عملياً وواقعياً في خطر وجودي واقتصادي وثقافي وحضاري. فرنسا هي قلب أوروبا ولا يمكن لمجموعة أن تستمر من دون نبض قلبها. ماكرون هو أصغر رئيس في تاريخ الجمهورية الخامسة التي أسسها الجنرال ديجول في منتصف القرن الماضي. بعد «بريكست» وانتخاب ترامب، أصبح كل شيء ممكناً بما فيه قتل المشروع الأوروبي الذي بناه كبار المسؤولين من فرنسيين وألمان وإيطاليين وغيرهم. كان بناء أوروبا لحماية السلم والسلام في القارة القديمة. نجحت «الوحدة الأوروبية» في تثبيت الاستقرار وحسن العلاقات بين الدول التي تحاربت خلال عقود بل قرون. يرتبط مستقبل العالم اليوم بشخصين لم ينتخبا سابقاً أي الأمريكي والفرنسي مما يفسر بعض التخبط الذي يتعرض له ترامب آخره طرد مدير عام الاستخبارات «كومي».
لم يكن فوز ماكرون مفاجئا بعد الانتخابات النمساوية والهولندية، إلا أن الخطر بقي موجودا خاصة قبل المبارزة التلفزيونية التي أظهر خلالها ماكرون تفوقه في المعلومات والجدية والتركيز والموضوعية والوضوح على منافسته اليمينية المتطرفة. انتخاب ماكرون أنقذ أوروبا واليورو وأبقى الأمل موجودا في تصحيح الخلل وإبقاء القارة موجودة اقتصاديا كمنافسة للولايات المتحدة وروسيا والصين. كان الخيار واضحا بين المرشحين للدورة الثانية أي بين العولمة والانعزال، بين الانفتاح والانغلاق، بين المستقبل والماضي، بين الانفتاح والعنصرية. اختار الفرنسيون البرنامج «الماكروني» المرتكز على مبادئ أربعة هي: أهمية الإنسان بالنسبة للمجموعة، التفاؤل في الحاضر وخاصة المستقبل، القيام بالسياسات الصحيحة حتى لو حملت بعض المخاطر المدروسة وأخيرا تعادل الفرص أمام الإنسان كي ينجح من ينتج ويجهد. لم يقتصر الزلزال «الماكروني» على ضرب وحدة حزب الجبهة الوطنية، بل أدخل الخلل إلى قلب أحزاب اليمين واليسار التي تواجه التفتت. فرنسا تغيرت ولا بد للأحزاب السياسية من أن تعكس هذا التغيير في العقلية والأهداف والمصالح والرؤية وإلا زالت.
كيف كان الوضع الاقتصادي الأوروبي كما الفرنسي قبل انتخاب ماكرون رئيسا للجمهورية؟ في احصائيات صندوق النقد، نمت منطقة اليورو بنسبة 2% في سنة 2015 و1.7% السنة الماضية. لا شك أنها نسب ضعيفة لكنها هل تبرر رفض قسم كبير من المواطنين للمشروع الأوروبي الذي استغرق بناؤه عشرات السنوات وعمليا منذ سنة 1956؟ هنالك خوف نفسي في أوروبا من المهاجرين والمهجرين، من التطرف الديني ومن العولمة غير مبني على وقائع ثابتة إنما يتغذى من سوء الأداء الاقتصادي وخصوصا من البطالة. حل مشكلة المهاجرين لا يكون عبر دول الاستقبال، إنما في دول المصدر حيث هنالك مشاكل كبرى في سوريا وليبيا وغيرها تحتاج إلى إنهائها وإلا استمرت الهجرة بأي ثمن. يختار المهاجر العادي البريء عبر القوارب الصغيرة بين الموت والموت، وبالتالي سيستمر في المخاطرة إلى أن تصبح الأوضاع مستقرة في بلاده. هنالك تقصير دولي في حل هذه المشاكل خاصة في منطقتنا العربية.
هنالك استياء شعبي من الفساد السياسي والمالي ليس أقله ما عرف عن توظيف «فرنسوا فيللون» لزوجته وأولاده في المجلس النيابي ولسنوات عدة. هنالك استياء من محاولته اخفاء الحقائق في هذا الشأن بل تحوير بعض الوقائع البديهية انعكست عليه في الانتخابات. هنالك استياء من النتائج الاقتصادية السلبية التي أوصلت إلى «الركود الكبير» في سنة 2008 ولم تتغير بشكل كلي حتى اليوم. هنالك استياء من النتائج المحققة في العديد من الدول منها اليونان التي ما زالت تعاني من بطالة قدرها 23.5% ومن نمو بطيء لا يتعدى 1.5% بالرغم من كل الاصلاحات والمساعدات والقروض. هل تكمن المشكلة في المرض أم في الحلول؟ هنالك أوضاع صعبة لا ينكرها أحد، إنما هل الحل يكمن في التطرف والرجوع إلى سياسات الماضي المدمرة؟ هنالك قلق أيضا بالنسبة لإسبانيا التي ربما تعود قريبا إلى مستوى 2008 الاقتصادي، أي أضاعت 10 سنوات من التقدم لكن ميزان الحساب الجاري أصبح فائضا علما أن الدين العام تضاعف مرتين والبطالة هي ضعفا معدل منطقة اليورو. حيث نتائج غير مرضية أقلها للطبقات الشعبية غير الميسورة التي زادت معاناتها في السنوات الماضية.
في فرنسا كانت نسب النمو أدنى بقليل من النسب الأوروبية أي 1.3% و 1.2% في السنتين الماضيتين. هنالك عجز في الميزان الخارجي لا يتعدى 0.5% من الناتج علما أن التضخم ضعيف أي أقل من 0,5% سنويا من ناحية أسعار الاستهلاك والفضل يعود إلى سياسات المصرف الأوروبي المحافظة ورئيسه «ماريو دراجي». تتقارب نسب الادخار والاستثمار المحليين من الناتج أي في حدود 22% مما يعني أن الاقتراض الخارجي في فرنسا غير ضروري. هنالك عجز في الموازنة في حدود 4% من الناتج أي أعلى من المسموح به أوروبيا وهو 3%. تقارب نسبة الدين العام من الناتج ال 100% وهي مرتفعة لدولة متقدمة كفرنسا. مشكلة فرنسا الأساسية هي البطالة المرتفعة والتي منعت عمليا الرئيس هولاند من الترشح للانتخابات، وهو ما لم يحدث من قبل. جميع الرؤساء السابقين في الجمهورية الخامسة حاولوا التجديد منهم من رسب كجيسكار ديستان ومنهم من نجح كجاك شيراك.
المهم أن ينتصر حزب الرئيس في الانتخابات النيابية المقبلة حتى يحقق برنامجه المرتكز على تخفيف الضرائب على الشركات من 33.5% إلى 25%، تخفيف عدد موظفي الدولة 120 ألف شخص، إبقاء عجز الموازنة في حدود 3% من الناتج كما نصت عليه اتفاقية «ماستريخت» وتحرير أسواق العمل من ناحية حرية التوظيف والطرد مما يساهم في تخفيف نسبة البطالة التي ما زالت مرتفعة أي في حدود 10% (25% للشباب) مقارنة ب 3.9% في ألمانيا و 4.5% في بريطانيا. يريد الاستثمار في البنية التحتية والبيئة في حدود 50 مليار يورو وتعميم التدريب للعاطلين عن العمل. يريد ماكرون تقوية العلاقات المالية بين دول الوحدة النقدية، إذ إن نقدا مشتركا لا يكفي بل يجب إيجاد موازنات كبيرة مشتركة.
يريد ماكرون تعميق الوحدة الأوروبية بحيث تعطي أفضل النتائج للمواطن وتضعف المتطرفين والعنصريين. يريد اقتراح إنشاء وزارة مالية أوروبية تسهل نقل الأموال والإعانات بين الدول أي من الغني إلى الفقير، لكن من المرجح أن يصطدم عندها بألمانيا التي لا يظهر أنها ترغب في اتخاذ هذا الطريق. يريد انسجاما سياسيا أقوى داخل الوحدة النقدية أي رئيسا فعليا مركزيا لأوروبا ووزير خارجية حقيقيا وليس واجهة لمجموعة غير متجانسة من الدول. يقول ماكرون عمليا للألمان، أما أوروبا واحدة قوية ووحدة عملية، أو ستكتسح الأحزاب المتطرفة كل الدول الأوروبية بعد سنوات قليلة.
أخيرا يريد ماكرون الحفاظ على الضمانات والتعويضات والحقوق للعمال، أي عمليا يريد نسخ المشروع الاسكندنافي المتطور في فرنسا. لا يمكن تصحيح الأوضاع الاقتصادية في أي دولة اذا لم تعالج حقوق العمال. يقول «كلاوس شواب» منظم مؤتمر «دافوس» الشهير إنه لا يمكن لأوروبا أن تسير بنفس السرعة، ولا بد من خلق أوروبا معدلة تسمح للدول الضعيفة بأن يكون لها مسيرة مختلفة. يقول الفيلسوف «برنار هنري ليفي» إن الديمقراطية في العالم تعتمد على نجاح ماكرون في مهمته الصعبة. اذا فشل ماكرون اقتصاديا، سينتصر اليمين المتطرف بالتأكيد بعد 5 سنوات أي أن العهد الجديد هو الفرصة الأخيرة للعقيدة الأوروبية المنفذة جزئيا بحيث تعطي النتائج المطلوبة من نواحي النمو وتوزع الدخل والبطالة. تحديات ماكرون كبيرة ولا يحسد عليها لكن المؤشرات إيجابية ولمصلحته.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"