أوهام «جنيف» السورية

02:16 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو
ينطلق قطار جنيف التفاوضي مجدداً بين الحكومة السورية وطيف المعارضة في الثالث والعشرين من الشهر الجاري، بعد حسم الروس للمعركة الميدانية الأهم في حلب، وجمعهم لممثلين عن الحكومة السورية وفصائل مسلحة في «أستانة» كازاخستان، وقد أخذت دعوة المبعوث الدولي ستيفان دي مستورا إلى جنيف ما حققته مفاوضات «أستانة» بالحسبان، مع ترك مفهوم التفاوض نفسه قيد الغموض؛ حيث أغفل نص الدعوة أي إشارة إلى الانتقال السياسي، مكتفياً بذكر مرجعية التفاوض المتمثلة ببيان «جنيف 1»، والقرار الأممي (2254)، مع ذكر أن المفاوضات ستجري دون شروط مسبقة.
لقد سعت أطراف عدة إلى إفراغ التفاوض من مضمونه الجدي، عبر خلق منصات كثيرة، ترتبط كل واحدة منها بإحدى الجهات الفاعلة الرئيسية في الملف السوري، ولم تعد «الهيئة العليا للتفاوض» هي الممثل الرئيسي لجسم المعارضة السورية، مع أنها ضمت، حين تشكّلها، قوى معارضة مسلحة وسياسية، بمن فيها الائتلاف الوطني، وهكذا فقد أصبحت تلك المنصات جزءاً من عملية التفاوض، مع أن بعضها كان محسوباً على بنية النظام السياسي السوري نفسه.
إن هذا السياق في بناء عملية التفاوض يعكس إلى حد كبير التناقضات بين الدول المؤثرة في الملف السوري؛ حيث تسعى كل دولة منها إلى فرض ممثليها في الحل السياسي، مع افتقاد هؤلاء الممثلين إلى أي امتداد في الحاضنة الشعبية السورية، وهو أمر يدعمه غياب الظروف الموضوعية لانبثاق قوى وطنية حقيقية، فلم تعد سوريا الراهنة وحدة جغرافية متماسكة بحكم الصراع العسكري، وتقاسم مناطق النفوذ، كما أن طول فترة الصراع العسكري، أسهمت في تهميش الفعل السياسي والمدني، سواء في مناطق النظام، أو في المناطق التي تخضع لسيطرة أطراف المعارضة، أو التنظيمات المتشددة.
وإذا كانت روسيا قد تمكنت من فرض نفسها كلاعب فوق اللاعبين الآخرين في الملف السوري، وستحاول وفقاً لما أحرزته من نقاط كثيرة أن تركّب حلاً يناسب مصالحها طويلة الأمد، ليس فقط في سوريا، وإنما في الشرق الأوسط، إلا أن دورها وفاعليتها يصطدمان بنفوذ اللاعبين التركي والإيراني، ولا يمكن للتوافقات الظاهرة أن تغطي جوهر التناقض بين روسيا وهذين اللاعبين، اللذين يعدّان الجغرافيا السورية امتداداً لأمنهما القومي، ولا يمكن لهما أن يقدما ما يتناقض مع مصالحهما، خصوصاً في ظل انفتاح الصراع في الشرق الأوسط على احتمالات كثيرة، ما تزال مشوبة بالغموض.
كما أن الميل الروسي، منذ بدء «الانتفاضة السورية»، يتجه إلى المحافظة على بنية النظام السوري، وقد أعاق، عبر ممارسة روسيا لحق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن، أي ضغوط جدية على النظام تدفعه إلى تبني الحل السياسي، كما أن مقاربتها للحل السياسي من زاوية الإرهاب تتجاهل جملة من الحقائق، وفي مقدمتها أن حضور الإرهاب في سوريا هو نتيجة لمأزق الحل السياسي، وتمدد نفوذ اللاعبين الإقليميين، بعد تطور الصراع العسكري، وما زالت روسيا حتى اللحظة تحاول أن تُحرف العملية السياسية نحو إحداث توافق سياسي يقوم على محاربة الإرهاب، وليس على إحداث عملية انتقال سياسي واضحة المعالم.
وفي تركيبة التفاوض التي سعت إليها روسيا، فقد دعمت وجود منصات «معارضة» معروفة بعلاقاتها التاريخية مع موسكو، ووجود ممثلي تلك المنصات ضمن وفد تفاوض المعارضة من شأنه أن يجعل تركيبة الوفد التفاوضي المعارض «هشة»، وغير قادرة على التوافق فيما بينها، لجهة تباين الرؤى إلى مفهوم الحل السياسي وآلياته، ما يعني أن هذه التركيبة ستكون قابلة للانفجار، ما سيجعل من المعارضة في موقع الاتهام، كونها غير متماسكة، وغير متوافقة على خريطة تفاوضية واحدة.
لا يبدو أن الشروط التي مهّدت للجولة الجديدة من جنيف أفضل من الشروط التي أنتجت الجولات السابقة، فعلى الرغم من حسم معركة حلب عسكرياً، وإخراج فصائل مسلحة من أماكن عدة في محيط العاصمة، والتقارب الروسي التركي، إلا أن جوهر العملية التفاوضية نفسه ما زال محط خلاف؛ إذ لا يمكن بعد ست سنوات كارثية من المأساة السورية الالتفاف على جوهر المأزق السياسي، المتمثل بتغيير النظام السياسي، وإيجاد ديكور سياسي «وطني»، لا يستطيع النهوض بالأعباء الثقيلة للنهوض بسوريا من عمق مأساتها، وتضميد جراحها، وبثّ الأمل للسوريين، ليشاركوا بفاعلية في بناء بلدهم.
إن الزج بقوى المعارضة السورية في جولة جديدة من التفاوض دون وجود أرضية واضحة للحل من شأنه أن يمهد لتغييب كلي للقوى السياسية الوطنية، والاستعاضة عن المسار السياسي بمسار آخر، قوامه التفاوض بين النظام والقوى المسلحة، وإنتاج نظام قائم على «المحاصصة» بين القوى العسكرية من نظام و«معارضة إسلامية»، ما سيعني بطبيعة الحال سنوات أخرى من الفوضى والاضطراب.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"