الصراع الطبقي والتحولات العولمية

00:32 صباحا
قراءة 4 دقائق

بعد احتلاله موقع البطولة في تفسير الصراعات العالمية، خلال الشطر الأكبر من القرن العشرين، تراجعت مكانة الصراع الطبقي في التحليلات التي تتناول الصراعات الإقليمية والدولية، وحلّت مكان هذا المفهوم مفاهيم أخرى، من مثل صراع المصالح، والحرب الاقتصادية، والتنافس الاستراتيجي، وغيرها من مفاهيم تتضمن بشكل أو بآخر مفهوم الصراع الطبقي، لكنها تتنكّر لجوهره، المرتبط بالطبقات، أكانت تلك الطبقات داخل الدولة الواحدة، أو الدول ذاتها بوصفها تجسيداً لموقع طبقي في الخارطة العالمية.

منذ أشهر، أعلن في سويسرا تأسيس الحزب الشيوعي الثوري، والاسم ذاته يثير الكثير من الغرابة في بداية الأمر، إذ كيف للمرء أن يتخيل بلداً غنياً مثل سويسرا، تعود إليه روح النضال من أجل تثوير المجتمع ضد الطبقة الثرية، المتمثلة بهيمنة رجالات المصارف على القسم الأكبر من الثروة القومية. ومع أن متوسط دخل الفرد في هذا البلد يعدّ من بين الأعلى عالمياً، وتهاجر إليه الكثير من الكفاءات الأوروبية بهدف الحصول على دخل أعلى مما تحصل عليه في بلادها، إلا أن ذلك، لم يمنع من ظهور هذا التيار الجديد، وهو بطبيعة الحال، تيار صغير ونخبوي، لكن له دلالته التي تصبح أكثر أهمية، لأنه تجلى في بلد غني مثل سويسرا.

أوروبا التي كانت، بعد الحرب العالمية، ساحة صراع أيديولوجي طبقي تحرري، تواجه اليوم صعود قوى اليمين، واليمين المتطرّف، وهما يعزفان على وتر الخوف على الهوية القومية التي يمثل اللاجئون والمهاجرون في هذه المعزوفة مكمن الخطر، فهم، أي اللاجئون، من وجهة نظر القوى اليمينية، الخطر الأكبر على الثقافة والديمقراطية، ومن الطبيعي، في مثل هذا الحال، أن يدفع الصراع الطبقي ثمن هذا الصعود، إذ يجري حرف بوصلة الصراعات الاجتماعية، فعوضاً عن أن تكون صراعات من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية، تصبح صراعات حول الهوية، ولا يحتاج المرء إلى كثير من الفطنة، ليكتشف أن هذه المعادلة الصراعية الجديدة، تصب بشكل مباشر في مصلحة الطبقات الغنية التي تخرج من مرمى سهام الغضب الشعبي، وتصوّر مشكلات البلاد على أنها نتيجة سياسات متسامحة تجاه الغرباء، وليست نتيجة حدوث تفاوتات كبيرة بين الطبقات.

روّجت موجة العولمة في مطلع تسعينات القرن الماضي لثقافة جديدة، نحّت فيها جانباً مقولة الصراع الطبقي، وركّزت على توحيد أنماط الاستهلاك في العالم، عبر مفاهيم ما بعد القومية، وما بعد الدولة الوطنية، والمواطن العالمي، وحقّ التمتع بمنجزات ثورتي التقانة والاتصالات، وجاءت تلك الموجة تعبيراً عن مرحلة جديدة من التحالفات بين الشركات العابرة للقارات، خصوصاً الشركات المالية، وشركات التطوير الرقمي، وشركات الاتصالات، وهي مرحلة صعود أيضاً لرأس المال المالي، الذي يراكم أصحابه الثروات من عمليات المضاربة المالية، وأسواق الأسهم، وإيجاد فقاعات مالية، تستنزف ثروات الفقراء، واستخدم الإعلام المرافق لهذه الموجة، لتأكيد النجاحات الفردية، على حساب التضامن الاجتماعي، والثروة الفردية، مقابل التوازن الاجتماعي، وغير ذلك، من المفاهيم التي لا تمتّ بأي صلة لواقع الفجوة المتزايدة عالمياً، بين الأغنياء والفقراء، وبين أصحاب رؤوس الأعمال والشركات، وبين العمال والموظفين.

لم تنجُ منطقة الشرق الأوسط من هذا الميل العولمي في تغيير عناوين الصراع، فقد عملت الولايات المتحدة، ومعها قوى عالمية أخرى، على دفع المنطقة نحو صراعات دينية ومذهبية، في واقع يحمل كلّ ممكنات هذا الصراع، لكنه لم يكن الصراع الطاغي في المنطقة، ولم يكن هو العنوان الرئيسي في تحديد مجمل السياسات الإقليمية، وعوضاً عن أن تنشغل شعوب ودول المنطقة، في تطوير عمليات التنمية، وخوض صراعاتها الاجتماعية، بمضامين تقدّمية، لتحقيق مستويات معقولة من التوزيع العادل للثروات، دخلت المنطقة، شعوباً ودولاً، في استنزاف مقدّراتها ومخزوناتها من الثروات، بما فيها الكفاءات البشرية، بحيث إننا لا نسمع اليوم أي حديث عن صراع طبقي، بل صراعات وحروب أهلية، وصراعات دينية، وحروب الجنرالات، وأثرياء الحرب، والقوى المتطرّفة، في انتكاسة تاريخية ونضالية لعموم المنطقة.

وإذا كانت الموجة العولمية قد نجحت بشكل كبير نسبياً من استبعاد الصراع الطبقي من قاموس الصراعات، إلا أن العولمة أوجدت صراعاً طبقياً جديداً في المنظومة الرأسمالية نفسها، لتحديد مكانة وتراتبية الدول في سوق العمل الدولي، وما نشهده اليوم من صراع بين الولايات المتحدة والصين، هو الوجه الأكثر وضوحاً للصراع من داخل، وفي داخل، المنظومة العولمية الرأسمالية نفسها، وهو لا يقل في حدّته عن الصراع الذي طويت صفحته، بين المنظومة الرأسمالية والاشتراكية، لكن في هذا التحوّل المفاهيمي، تنشأ صراعات انتكاسية، ليس فقط في المجتمعات والدول الأكثر فقراً وتهميشاً، بل أيضاً في الدول العولمية نفسها، حيث نشهد صعوداً غير مسبوق للشعبوية التي تحمل في طياتها العديد من الرؤى والتصورات الاستعلائية، التي تذكّر بالفاشية، على حساب الكثير من القيم المواطنية، وهو أمر يبدو طبيعياً، نظراً لتفريغ الصراعات من مضمونها المرتبط بالعدالة الاجتماعية، وما رافقه من تحوّل في صياغة سياسات الصراعات الدولية التي أصبحت محكومة أكثر فأكثر بمصالح الشركات الكبرى، والتحالفات المالية العابرة للقارات.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2cmrewzn

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"