أين الخطاب العربي؟

03:47 صباحا
قراءة 3 دقائق
حافظ البرغوثي

اختفى الخطاب القومي من أبجديات العمل السياسي العربي، ومن ندوات المثقفين ومؤلفاتهم، وخلت الساحة العربية الآن من المنابر القومية التي تؤازر الوعي القومي، وتعمل على إيقاظه باعتباره الرافعة في وجه التفرد الممقوت للخطاب الديني المسيس والمذهبي. ففي العقود الأخيرة، صال الخطاب الذي تتبناه أحزاب الإسلام السياسي في الإعلام، والمنابر، والندوات، والمساجد، وحط من قدر الشعور القومي، وأظهره كأنه شعور كافر، وملحد، وخرج العلمانيون المتغربون بخطاب مواز في مضمونه يبشر بالعولمة، وضرورة تجاهل الشعور القومي، لأن العولمة تعني سيادة الإنسانية والتكنولوجيا بعيداً عن الدولة الدينية، أو القومية. وسبق «المتأسلمون» و«المتفرنجون» ما بذله دعاة الدولة القطرية من جهود لإبراز القطرية ومحاسنها مع أنها احد إفرازات الحرب العالمية الأولى، وسايكس بيكو، كأنها نهاية المطاف. وتم تقزيم المشاعر العروبية لمصلحة الوطنية القطرية، مع أن كلاً منهما تكمل الأخرى، ولا تتناقض معها نظرياً. فقد تبنت قوى إقليمية، ودولية، وقطرية، التيارات الدينية في العالم العربي بهدف التنكيل بالفكر القومي وإزاحته من الساحة بعد الحقبة الناصرية، ونجحت هذه الحملة المبرمجة في خفوت التيار القومي، وتشويه العروبة.

وقد ثبت لاحقاً عقم هذه الأحزاب، والتيارات في بناء أي شيء على الأرض، فهي تحمل معاول هدم وليس أدوات بناء، فلم تفلح في إقامة أي أنموذج للحكم، بل استلهمت نماذج دخيلة عن الدين، واختلفت فيما بينها، فصارت هناك أحزاب وتيارات وجماعات في صراع دموي، وأغلبها لها ارتباطات إقليمية غير عربية، ودولية أيضاً، من دول استعمارية سابقة، فما كان حصادها في العقد الأخير غير القتل، والسحل، والترويع، والتنفير من الدين، وتدمير دول، وشرذمة شعوب وتهجيرها.

ولعلنا لاحظنا في بداية ما سمي ب«الربيع العربي» كيف تم نبش الدمامل الاجتماعية الخامدة لاستخدامها في مصلحة من يريد استثمار الثورات لإثارة الفتن، فتم رفع شعارات الأقليات العرقية والمذهبية، وحقوقها، فكيف يتلاءم ذلك مع شعارات العولمة التي تدعو لإنهاء العصبيات القومية والدينية لمصلحة التقدم الحضاري الإنساني من دون عقد موروثة كما يدعون؟ ولماذا بات الشعور القومي العربي فقط، أو الدولة القومية العربية رجسا ًمن عمل الشيطان في أدبيات العولمة، والأحزاب «المتأسلمة»، ولكنها ليست كذلك في الغرب، حيث تصاعد التيار الشعبوي القومي في دول أوروبا حالياً، ووصل بعضه إلى السلطة رافعاً شعاراته القومية والعنصرية. وحتى الحزب الجمهوري الأمريكي، تحول إلى حزب شعبوي ينطق بلسان مذهب ديني إنجيلي صهيوني، له أهدافه السياسية المدعومة بأساطير دينية حول الخلاص المسيحي، وقيام «إسرائيل»، ودعمها كمقدمة لظهور المسيح.

المشروع القومي الحديث انهار إما لأسباب خارجية، حيث تكالب الأعداء عليه من الخارج، وإما لأسباب داخلية، لأن بعض النظم القومية تحولت إلى الاستبداد الشمولي، ولم تراجع نفسها، بل كانت على عداوة مع بعضها بعضاً، ولم تأخذ بسنّة التطور والتغيير في العالم، ولم تكيف فكرها وأساليب حكمها مع التطورات الدولية، ما جعلها رهينة نفسها، وصار سهلاً الإطاحة بها. فالعجز الذي أصابها هو نفسه الذي أصاب الأحزاب ذات التوجه الإسلامي السياسي، فهي لم تنتج نظاماً، عادلاً، ولم تأخذ من الديمقراطية إلا انتخابات لمرة واحدة، بحيث إذا تمكنت من الوصول إلى الحكم حكمت على نفسها بالحكم المؤبد. ولهذا لاحظنا أن الفكر القومي نفسه لم يتطور، ولم يناقش الديمقراطيات الحديثة كأسلوب حكم عادل، أي أنه ظل يناور ضمن أن دولة الوحدة كفيلة بحل كل الأزمات التي تعصف بالمجتمع العربي، بينما ذهب المتحزبون الإسلاميون إلى رفع شعار «الإسلام هو الحل»، وأن تطبيق الشريعة هو المعادلة السحرية التي ستقيم مجتمع العدالة. وفي كلتا الحالتين كان الفشل الذريع في مواكبة العصر ومتطلباته وتحقيق طموحات الشعوب.

أين القومية العربية من هذا الصراع المحتدم في المنطقة والعالم؟ولماذا بتنا نخجل من المجاهرة بها والعمل لأجلها في وجه القوميات الزاحفة على الوطن العربي؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"