أي مستقبل مع النزيف العلمي؟

02:54 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الإله بلقزيز

مع أن أبواب هجرة العمالة العربية إلى بلدان أوروبا أقفلت منذ عهد بعيد، وخضعت للتقييد الشديد في الولايات المتحدة وكندا، فانقفلت معها أبواب الرزق لملايين ممن لم تستطع مجتمعاتهم العربية أن تجيب حاجاتهم إلى العمل والعيش الكريم، فوجدوا أنفسهم ينضمون مكرهين إلى قوافل العاطلين عن العمل، «مع ذلك» استمر نوع مميز من الهجرة يجد سبيله إلى التحقق في هاتيك البلدان، ولم توضع في طريقه كبير عراقيل، هو هجرة الكفاءات العلمية العربية إلى تلك البلدان والإقامة فيها، والتجنس بجنسياتها؛ بل نحن شهدنا على تزايد كبير للطلب على هذا النوع من الهجرة، في بلدان الغرب، وتنافس هائل بينها على استدراج هذه الكفاءات إليها وإلى مؤسساتها العلمية والإنتاجية عن طريق الإغراءات الكثيرة: الرواتب العالية والتعويضات والامتيازات وما إلى ذلك، مما يستعصي على أكثر تلك الكفاءات مقاومة جاذبيته، خصوصاً بالنظر إلى أن نظير ذلك؛ بل ما دونه، معدوم في بلدانها الأصل ما خلا في أقطار الخليج العربي.
تتكون الكفاءات العلمية العربية المستدرجة إلى الإقامة في بلدان الغرب من فئتين: فئة أولئك الذين تكوّنوا في الجامعات والمعاهد العليا الغربية وتخرجوا فيها بشهادات عليا، ثم أولئك الذين تلقوا تكوينهم في جامعات بلدانهم ومعاهدهم العليا، ولكنهم تخرجوا بتميز: خاصة في التخصصات العلمية التجريبية والرياضية. والحق أن التمييز هذا نسبي، وربما أوحى بأن الفئة الأولى أرصن تكويناً من الثانية، وهذا غير صحيح دائماً. لقد تقاسمتا معاً شطراً من التكوين العلمي في بلدانها ومؤسساتها التعليمية، ذلك أنه إن استثنينا أبناء المهاجرين في بلدان الغرب وهم مواطنون في تلك البلدان فإن النسبة الكبيرة من هذه الفئة الأولى تعلمت في أوطانها، وشد أفرادها الرحال إلى هذا البلد أو ذاك لاستكمال دراستهم العليا فيه. ومنهم من تخرج في الجامعات والمعاهد العربية محصلاً شهادة الإجازة (الليسانس) أو الماجستير قبل الانتقال لاستكمال الدراسة في الغرب. وفي ذلك ما يدل على أن تفوقه الدراسي في الغرب محصلة تفوق دراسي في وطنه، فلا مجال إذن لربط تفوقه بانتقاله إلى الدراسة في الغرب.
من الملاحظ أن نسبة من يعودون إلى أوطانهم، بعد التخرج من أبناء الفئة الأولى نسبة قليلة، وهي تزيد مع الزمن قلة، لانعدام فرص العمل وبنيات الاستقبال الملائمة، وأن من يعودون يمتلكون في الغالب، القدرة على توفير شروط العمل في القطاع غير الحكومي (خاصة في مجالات الطب والصيدلة والهندسة المعمارية، وإدارة الأعمال والتسويق..)، وأكثرهم يبقى في بلدان الغرب لوجود الفرص والحوافز، فيفضل العمل في المؤسسات العامة والخاصة (الجامعات والمعاهد، المستشفيات، المختبرات العامة، المصانع/شركات الاستثمار). أما المتخرجون من منتسبي الفئة الثانية، والذين لا يجدون أمامهم فرص عمل مناسبة لشهاداتهم العليا في بلدانهم، أو لا يجدون منفذاً لتطوير مؤهلاتهم من خلال برامج البحث العلمي، فيتسابقون للبحث عن فرص عمل في مجتمعات متقدمة تفتح أمامهم لا أبواب الرزق فقط؛ بل إمكانية تطوير مهاراتهم العلمية في برامج البحث.
ما أغنانا عن القول إن هجرة هذه الكفاءات واقع اضطراري فرضه العوز والتخلف وغياب برامج البحث العلمي وانعدام بنيات الاستقبال الملائمة لاستيعاب الكفاءات، وهي قد تبدو هجرة مشروعة لأولئك الذين لا حول لمصائرهم ومستقبلهم ولا قوة أمام عسر أوضاع بلدانهم، من أجل تأمين العيش الكريم. إنهم بمعنى ما غير مسؤولين عن وضع يجدون أنفسهم فيه عرضة لنتائجه الكارثية عليهم، فهم من ضحاياه، والمسؤولية فيه تقع على من يديرون السياسة والاقتصاد و«البحث العلمي». ولكن، ما أغنانا عن القول في الوقت عينه إن مجتمعاتنا ودولنا ومستقبلهما تدفع، جميعها ثمن هذا الهدر المروع للثروة العلمية البشرية فيها. لقد أنفقت الدول من أموال الشعوب الكثير كي تبنيَ المدارس والجامعات والمعاهد العليا، وتشغل مئات الآلاف من المدرسين والأساتذة، وتجهز المؤسسات باللوازم التعليمية والمختبرات العلمية، من أجل تكوين هذه الكفاءات العلمية العالية، من دون أن تستفيد من ثمار كل ذلك الجهد وكل تلك التضحية المبذوليْن! كأنها كانت تقوم بذلك على سبيل تقديم السخرة لبلدان الغرب التي ستتخطف تلك الكفاءات! كل شيء في مجتمعاتنا خاسر في هذه الصفقة الفاسدة: الاقتصاد والإنتاج، والبحث العلمي، والصحة العامة، والبنى التحتية، والتكنولوجيا.. كنا كمن يصب الماء على الرمل ونحن نُكوِّن ثروة علمية لن نستفيد منها، لأننا لم نعدّ العدة للاستفادة منها كما تفعل الدول التي تحترم نفسها وثرواتها.
المستفيد الأول والأخير هو الغرب الذي يقتنص هذه الكفاءات مستفيداً من عجزنا في توطينها في النسيج الاقتصادي والعلمي والمجتمعي.. إن هذا الطور من أطوار الهجرة هجرة الأدمغة والكفاءات هو الأسوأ في كل أطوار الهجرة على الإطلاق، إنه لا يمتص ضائقة ويوفر عملة صعبة؛ بل يمتص مستقبلاً ويصادر عملة صعبة، فأي مستقبل إذن مع هذا النزيف العلمي؟.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"