أي مواطن وأية ثقافة نريد في المستقبل؟

03:48 صباحا
قراءة 5 دقائق

هذه مشاركة متواضعة في سؤال الثقافة في الإمارات واستجابة لنداء الشيخ نهيان بن مبارك وزير الثقافة والشباب وتنمية المجتمع، الموجه لكافة المثقفين في الدولة، للإسهام في تقديم مقترحات وتصورات لاستراتيجية ثقافية مستقبلية للإمارات .

وتنطلق هذه المشاركة، من الإيمان بأنه لا سبيل إلى تحقيق وتعزيز التنمية الشاملة في أي مجتمع من دون تنمية ثقافية، باعتبار أن الثقافة هي الصورة المميزة لأي شعب، وتنتظم فيها سماته الروحية والمادية والفكرية والفنية والوجدانية، وتشمل معارفه وقيمه وطرائق تفكيره وإبداعه وطرز حياته، فضلاً عن تطلعه وطموحاته المستقبلية وإشباع حاجاته الإنسانية .

والثقافة، في تقديري، عملية إبداع متجددة، تتفاعل مع الواقع تكيفاً أو تجاوزاً نحو المستقبل المنشود . وفي الوقت نفسه، هي إنجاز تراكمي متنام، وبحمد الله، فإن الإمارات حققت تطوراً مميزاً في شتى القطاعات، وارتقت بحياة ومعيشة الإنسان، ووسعت الخيارات أمامه، وانضجت حراكاً ثقافياً ومشاريع ثقافية، تحتاج إلى تجديد وتطوير وإغناء .

كما تحتاج إلى بلورة مشروع ثقافي وطني، قائم على اعتبار أن الثقافة هي عنصر حيوي في تأسيس الدولة الحديثة . وفي صوغ ذهنية الإنسان وقيمه ومعايير سلوكه وصورته أمام الآخر، وصورته لذاته . وإغناء شخصيته ووعيه بهويته، وثقته بنفسه .

لكن السؤال المطروح هنا، هو كيف نجدد ونطور ونبلور في ظل متغيرات جارفة؟ والإجابة تبدأ بالقول إن أية استراتيجية ثقافية ناجحة، تتطلب الإجابة الصريحة والواقعية عن سؤال: أي مواطن نريد في المستقبل؟ .

ولا شك في أننا نسعى في الإمارات لإعداد مواطن منتم بولائه إلى وطنه، مبدع ومنتج ومنفتح ومشارك، وحامل لقيم العدل والعمل والحرية وحقوق الإنسان والمسؤولية الاجتماعية، واحترام الآخر المغاير، والسماحة، والباحث عن المعرفة والحكمة من أي وعاء خرجت .

ولأن الثقافة هي تعبير عن الناس، وعن صورة حركتهم في الماضي والحاضر، فإنها تصبح قوة للبقاء، وترفد الإنسان برؤية لذاته وللعالم والكون وللأشياء من حوله .

من ناحية أخرى، فإن أية استراتيجية ثقافية ناجحة في ظل أزمنة متغيرة وعولمة تقلب العالم رأساً على عقب، تتطلب أن تتماهى مع الشمولية في ميادينها، والتوازن في حقولها، والتجاوب مع حاجات المواطن، ونابعة من الذات، ومتطلعة إلى التجدد والتفاعل مع الآخر الثقافي، وذات علاقة تبادلية مع التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية . وأن تتسع لأكبر عدد من أفراد المجتمع، ولا تقتصر على النخبة، لتصبح الثقافة نمط عيش مشترك، وطرق تفكير وسبل سلوك وتصرف وتعبير، ومن خلال ذلك تتشكل الهوية الوطنية الثقافية المنفتحة .

إن مجتمع الإمارات بحاجة ماسة إلى توثيق علاقاته مع الثقافة ومنتجاتها، مثلما أقام علاقته مع التجارة والاقتصاد والتحديث، والحوكمة والإدارة الحكومية الذكية، ولنعترف بأن هذا التوثيق المنشود ليس عملية سهلة، وإنما معقدة، ويستحسن ألا تتولى مهامها الشركات الدولية باعتبار أن الهوية الثقافية لأي مجتمع، ليست معطى جاهزاً ونهائياً، بل هو كيان يتطور ذاتياً، وفق مرجعيته: جماع الوطن والدولة .

كما تتطلب المرحلة المقبلة، إعلاء شأن الثقافة، باعتبارها مستودع الهوية الوطنية، والجذر الذي يغذيها بالصمود والنماء والتجدد، وينمي التماسك المجتمعي . ويكوّن الشخصية الإماراتية المتكاملة ويهيئها للوعي العميق والأصيل بتراثها، وإعدادها للتفاعل مع العصر، واستيعاب معطياته وثقافاته وعلومه، والتفاعل أيضاً مع الثقافات الأخرى أخذاً وعطاء .

ومن الأسئلة الجوهرية التي تفرض نفسها، أسئلة الواقع الثقافي الراهن وحاجات المجتمع المستقبلية .

إذ يتعذر وضع استراتيجية شاملة للثقافة في الإمارات، من دون معرفة علمية للوضع الثقافي الحقيقي في مجتمعنا، بهدف تصويب المسار، واستكمال البناء، ومواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية، كما يتعذر وضعها من غير معرفة لحاجات المجتمع الثقافية، في شمولها وتنوعها وتفاصيلها، وصياغة هذه الحاجات في أهداف عامة وقطاعات ومشاريع وأولويات ومراحل زمنية ووسائل محددة .

من ناحية ثانية، فإن فصل استراتيجية الثقافة عن خطط التنمية الاقتصادية القائمة والمستقبلية، وتعذر وجود علاقات تأثير متبادل وعضوي بينهما، لا يخدم غايات الثقافة والتخطيط التنموي في آن، فالثقافة ليست كياناً مغلقاً على ذاته، بل هي في تفاعل وتبادل وتأثير في الاجتماع والاقتصاد والهوية والقيم والحاضر والمستقبل . وهي أيضاً الاقتصاد الآخر لأي شعب، وهي حصن الدفاع الأخير عن هويته وكيانه .

ومن المحاور الرئيسة لأية استراتيجية ناجحة، التعرف إلى طبيعة التحديات المهمة التي تواجه الثقافة في الإمارات، وتحليل أوجه القصور فيها؟

بمقدوري أن أجتهد بذكر عدد من هذه التحديات، من واقع قراءاتي وخبرتي العملية المباشرة،:

(1) غياب العلاقة المتبادلة، والتنسيق المستدام مع خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والسياسية، بمعنى أن خطط التنمية الثقافية مازالت في معزل عن التخطيط التنموي .

(2) غياب الخطة الثقافية الاتحادية، كإطار مرجعي للسياسة الثقافية في الدولة، ضمن تنوعها في كل إمارة .

(3) وضع التنمية الثقافية في مراكز متأخرة من الاهتمام، سواء من حيث التخطيط أو التمويل أو التنفيذ أو التقدير المجتمعي .

(4) قصور في شمولية الثقافة وقطاعاتها، وضعف توازنها .

(5) ضعف مشاركة المجتمع، ومشاركة القطاع الخاص في التنمية الثقافية .

(6) تحديات إغناء شخصية المواطن الإماراتي بعناصر الثقافة، واطلاق طاقاته الإبداعية، وبلورة هويته الوطنية وتنميتها، وتنمية تماسكه الوطني والقومي والإنساني، واستيعابه لتيارات العصر ومنجزاته الثقافية والإبداعية ومشاركته الايجابية، أخذاً وعطاء في تقدم الإنسان .

(7) تحديات تحفيز المشاركة الشعبية في إنتاج الثقافة والعملية الإبداعية والافادة منها، ووصولها إلى كل الناس في كل مدن وقرى الإمارات (الثقافة للجميع) وتمكينهم من إبداء الرأي فيها، وضمان ذلك بالتشريعات اللازمة .

(8) تحديات تكوين رأسمال بشري ثقافي، كركيزة أساسية في بناء الغد، وهي تحديات لا تواجه بالنشاطات الثقافية الموسمية ولا بالوجاهة الثقافية، وإنما من خلال انخراط المواطن والمواطنة في الفعل الثقافي، إبداعاً وإسهاماً واستمتاعاً، وبتضافر جهود التعليم والإعلام والاقتصاد والمجتمع . . إلخ، وتوفير المزيد من حريات الإبداع والتعبير الثقافي، واحترام المعايير النوعية للثقافة، وتكثيف الاشعاع الثقافي، الذي يحفز الناس على الارتقاء الفكري والسمو الإبداعي والانفتاح على العصر والتسامح الثقافي .

(9) تحديات التنمية الثقافية للطفل والشباب، وبخاصة مسألة التوازن ما بين ثقافة البحث العلمي والتذوق الجمالي والأدبي والرؤية النقدية، وتقليص الفجوة الكبيرة القائمة ما بين الأعداد القليلة للملتحقين بالكليات الإنسانية والفنون والآداب وبين الأعداد الهائلة الملتحقة بدراسات الأعمال والإدارة .

(10) تحديات النقص في الوسائل والمرافق والبحث، وضعف وقلة كفاءة الأجهزة البشرية المتخصصة في إدارة الشأن الثقافي .

(11) تحديات الأمن الثقافي، باعتبار الثقافة ومقوماتها ومجالاتها وتأثيراتها، هي حصن وحدة المجتمع وتوحده وهويته، ومن بين هذه التحديات: مخاطر ثقافة الاستهلاك التفاخري، وتدفق الثقافة المعولمة، والحاجة إلى استكمال المقومات الأساسية للثقافة الوطنية، من احترام للتعددية في التفكير وعدم الغلو والتعصب، وبث أخلاقيات الحوار وآداب الجدل البناء واحترام القانون وقيم العطاء والعدل .

إنني من مدرسة تؤمن بأن الثقافة هي رؤى وعادات وسلوك وإبداع وقيم وأوسع من كونها ثقافة للنخبة وإبداع فرد، إنها المصدر الأساسي في إنعاش روح الشعب وتنمية وجدانه، والارتقاء بوعية الثقافي، وتجديد حيويته، وزرع الثقة والأمل في المستقبل، وتعزيز تنميته الذاتية، وقيم العمل والإبداع والحرية والمسؤولية لديه، والتواصل الفاعل مع الآخر المغاير واحترام الاختلاف . وتمكينه من التمييز ما بين الغث والثمين من المنتج الثقافي (هذه هي الغايات والأهداف) .

نستطيع بلا مواربة أن نتحدث عن ثقافة عربية إماراتية، وعن هوية ثقافية في طور التشكل والبلورة، وعن تراث روحي ومادي يشعر كل مواطن أنه جزء منه، وعن انتماء إلى ثقافة عربية عريقة يشعر المواطن بوجوده في إطارها، واستعداده للمشاركة فيها، وبالحرية ضمن أجوائها، وعن شخصية اجتماعية تربط بين أفرادها لغة واحدة ودين واحد وعادات وتقاليد متشابهة ومتطورة ومصير واحد، وتتفاعل مع ثقافات أخرى، وثورات علوم واتصال، وإرادة باتجاه صوغ ثقافة المستقبل . أما تفاصيل الاستراتيجية فإن لها حديثاً آخر . . في وقت آخر .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"