إخراج «الجيني» من القمقم

01:12 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. عبد العظيم محمود حنفي *

لا تزال فجوة عدم المساواة مستمرة في التنامي، ولا تزال أوجه التفاوت بين الأغنياء والفقراء في البلد الواحد، وبين البلدان المختلفة مستمرة في الازدياد، مما يجعل من الضروري مع تزايد الاهتمام بهذه القضية عالمياً إخراج «الجيني» من القمقم.

ومعامل جيني من أكثر مقاييس عدم المساواة انتشاراً، ويتراوح من الناحية النظرية بين صفر، عندما يحصل كل فرد في المجتمع على نفس المقدار تماماً من الدخل، و100 (أو 1) عندما يحصل فرد واحد في المجتمع على الدخل كله. تتراوح قيمة معامل جيني في البلدان التي تتمتع بالعدالة نسبياً كالسويد وكندا على سبيل المثال بين 25 و35 نقطة، ولكن أغلبية البلدان تتركز حول 40 نقطة في معامل جيني، واليوم تصل قيمة معامل جيني في الولايات المتحدة والصين ورسيا في حدود الشريحتين المنخفضة والمتوسطة إلى الأربعينات.

ويتراوح معامل جيني في معظم بلدان إفريقيا وأمريكا اللاتينية في حدود الشريحة العليا بين الخمسينات، ففي بعض الفترات الزمنية الاستثنائية يمكن أن يصل معامل جيني إلى الشريحة الدنيا من الستينات. ولا توجد حالات مؤكدة و مستمرة لبلدان تجاوز فيها معامل جيني هذه الحدود.

وبالتالي، فإن النطاق الفعلي لمستوى عدم المساواة القطري يتراوح بين 25 وحوالي 60 نقطة. أما التفاوت العالمي بين جميع شعوب العالم، فهو عند 70 نقطة تقريباً. فقضية عدم المساواة لها أهمية متعاظمة في الوقت الحالي، مما يثير مجدداً العلاقة بين العدالة في توزيع الدخل والكفاءة. وهناك اتجاه كان هو الأكثر شيوعاً، ويرى أن عدم المساواة هو الشكل السليم للاقتصاد، وانطلق هذا الرأي عندما كان رأس المال المادي هو الأكثر أهمية، وكانت مدخرات الاستثمارات من العناصر الرئيسية. وبالتالي كان من الضروري وجود مجموعة كبيرة من الأغنياء الذين يستطيعون ادخار جزء أكبر من دخلهم مقارنة بالفقراء واستثماره في رأس المال المادي. وبالتالي فإن عدم المساواة هو أمر مفيد للاقتصاد. وكان آخر من عبر عن ذلك الاتجاه آرثر أكون في كتابه الشهير بعنوان: «المساواة والكفاءة.. المفاضلة الكبرى» الصادر عام 1975، و ذهب إلى أن السعي لتحقيق المساواة يمكن أن يقلل من الكفاءة (وهي الاستفادة المثلى من الموارد لتحقيق الحد الأقصى من الإنتاج).

وقال الخبير الاقتصادي الراحل الذي عمل في جامعة ييل: «إن زيادة المساواة في توزيع الدخل، يمكن أن تقلل الحوافز الدافعة للعمل والاستثمار، فضلاً عن أن جهود إعادة التوزيع من خلال آليات مثل قانون الضرائب والحد الأدنى للأجور يمكن أن تكون مكلفة في حد ذاتها».

وذكر أوكون أن هذه الآليات تشبه «الدلو المثقوب». فبعض الموارد التي تؤول من الأغنياء إلى الفقراء «تختفي ببساطة في المرحلة الانتقالية، ومن ثم فإن الفقراء لا يحصلون على كل الأموال التي تؤخذ من الأغنياء»، نتيجة للتكاليف الإدارية ومثبطات العمل لكل الذين يدفعون الضرائب والذين يتلقون التحويلات.

ولكن هناك نظرية أخرى يشتد أوارها في السنوات الأخيرة، تناقض تلك الآراء و ترى أن عدم المساواة مضر بالنمو، وهذا التحول في المواقف حدث نتيجة تزايد أهمية العنصر البشري في التنمية، في وقت أصبح فيه رأس المال البشري في الوقت الحالي، أكثر ندرة من الآلات، وأصبح التعليم واسع النطاق، هو مفتاح النمو، لكن توفير التعليم المتاح للجميع لن يتيسر إلا إذا كان المجتمع يتمتع بقدر نسبي من التكافؤ في توزيع الدخل.

وإضافة إلى ذلك، فإن التعليم واسع النطاق، لا يقتضي فقط توافر قدر نسبي من التكافؤ في توزيع الدخل؛ بل يقتضي أيضاً تكاثره، في حلقة تعاقبية إيجابية؛ نظراً لأنه يقلص فجوات الدخل بين العمالة الماهرة والعمالة غير الماهرة. إذن الاقتصاديون في وقتنا الحالي يعارضون عدم المساواة أكثر من أي وقت مضى، فالمزايا المترتبة على الحد من عدم المساواة هي مزايا عملية: تسهيل النمو الاقتصادي، وأخلاقية: الحد من التفاوت غير المبرر في الدخل بين الرجل والمرأة، أو بين الأفراد المقيمين في مناطق مختلفة في البلد الواحد، أو بين شعوب البلاد المختلفة.

وقد شهدت السنوات الأخيرة تغيرات متناقضة، ففي الوقت الذي زاد فيه العديد من أشكال عدم المساواة (لاسيما داخل فرادى البلدان)، تراجعت أشكال أخرى. ونشر صندوق النقد الدولي بعضاً من الدراسات التي ترى أنه ليس صحيحاً أن المجتمعات لا مفر أمامها سوى الاختيار كرهاً بين كفاءة الإنتاج، والعدالة في توزيع الثروة والدخل معاً. واستنتجت أن المفاضلة بين الكفاءة والمساواة قد لا يكون لها أثر عند النظر إلى النمو على المدى الطويل. وترى تلك الدراسات أنه يبدو أن المساواة هي أحد العوامل المهمة في تعزيز النمو وتحقيق استمراريته، وأن عدم المساواة تؤثر في النمو والنتائج الاقتصادية الكلية الأخرى في كافة أنحاء المعمورة، وتدل حركات المجتمعات الساخطة، من «أغلقوا وول ستريت»، إلى «السترات الصفراء»، مروراً بحركات الاحتجاج المجتمعية، على حالة الاضطرابات التي يسببها اتساع عدم المساواة في كافة المجتمعات الغنية والفقيرة، على حد سواء، وتبين تلك الدراسات أن الإصلاح الاقتصادي الذي تقوم به بعض الدول لا يصبح قابلاً للاستمرار، إلا إذا شملت منافعه الجميع.

* كاتب وباحث أكاديمي مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"