إخفاء ما وراء الصور والمشاهد

04:49 صباحا
قراءة 3 دقائق

يعيش الوطن العربي حالياً حالة من فيضان هائج من الكتابات والأحاديث والصور التي تعرض نفسها على الإنسان العربي ليل نهار، فتدخله في حيرة من أمره بسبب كثرتها والتناقضات فيما بينها وإثارتها لشتى الشكوك في عقله .

ومع التزايد الهائل في أعداد الصحف ومحطات التلفزيون والإذاعات ووسائل التواصل الإلكتروني، تزداد أعداد الكتاب والمتحدثين غير المؤهّلين أو الدخيلين والمندسين . كلُ ذلك يدخل الإنسان العربي، وعلى الأخص الشباب منهم، في حيرة وضياع وغوايات فكرية وعاطفية .

ما العمل إذن لمواجهة مشكلة كهذه، تتفاقم وتكبر؟ في اعتقادي أن المدخل الرئيس هو توعية الشباب وتدريبهم على أن يعوا الفرق بين أسلوبين في الكتابة وطرحين في الأحاديث والمناقشات .

هناك الأسلوب والطرح الذاتي الشخصي أو الإيديولوجي الذي لا يرى في أي موضوع إلا نتائجه النهائية، ولا تهمه

الأسباب الكامنة وراءه والمؤدية إلى تلك النتائج .

وهناك الأسلوب والطرح الموضوعي المحايد الشامل الذي لا يكتفي بمعرفة الصورة النهائية لأي حدث أو موضوع يكتب أو يتحدث عنه ووصفها، وإنَّما يغوص أيضاً في الأسباب التي قادت إلى تلك الصورة النهائية التي يراها الإنسان أمامه .

دعونا نذكر أمثلة لتوضيح مانعني ولتبيان الفرق بين الأسلوبين والطرحين .

يكتب أحدهم عن دكتاتور عربي حكم بقبضة استبدادية دموية هذا القطر العربي أو ذاك باسم هذا الحزب أو ذاك . يكتفي هذا الكاتب بوصف مايتعلق بذلك الدكتاتور من شخصية مرضية نفسياً تقوده إلى الممارسة السَّاديَّة مع مناوئيه وشعبه، وإلى استئثاره المطلق باتخاذ القرارات وحكم العباد ممَّا ينتهي إلى تدمير البلاد التي يحكمها . كتابة كهذه لا تزيد على أن تكون كاميرا تصور المشهد بدقة من دون أن تظهر ما وراء المشهد . إنها كاميرا تصور الابتسامة أو الحزن ولكنها لاتصور ماوراء ذلك .

ما وراء المشهد، والمتمثل في ضعف أو انتهازية أو غياب أية ممارسة ديموقراطية في الحزب الذي يحكم الدكتاتور باسمه، يبقى من المسكوت عنه . وهكذا يقتنع الكثيرون بأن المشكلة ستحلُّ بإيجاد دكتاتور آخر أكثر رحمة وأقل دموية، وهذا سراب وأمنيات .

لنأخذ موضوعاً آخر أثيراً لدى علماء وكتَّاب الاجتماع العرب ويقرأه الإنسان يومياً في صفحة القراء أو يسمعه من ألسنة الشاكين . يتحدث هؤلاء أو يكتبون، بلوعة وبكثير من الواجب والمسؤولية، عن شباب الجيل الجديد وارتكابهم الأخطاء تجاه عائلاتهم ووالديهم . وتنصبّ اللعنات على أبناء هذا الجيل بسبب مخالفتهم للتوجيهات القرآنية أو الأحاديث النبوية التي تأمر بكل وضوح وقوة بالبر بالوالدين، لكن لا أحد يذكر شروط تلك التوجيهات الإسلامية الرائعة من توفُّر رحمة وحب غير نفعيين وتسامح ورفق في المعاملة واحترام للكرامة الإنسانية، والتي بسبب نبل من يمارس تلك الشروط وسموّه ومكانته عند الخالق، أعطى الإسلام تلك الأهمية الكبرى لموضوع البر والطاعة للوالدين، غير المشروطين وغير المحدودين . فلا القرآن ولا الأحاديث يمنحان شيكاً على بياض، وإلاً فإن العدالة الإلهية ستكون مجروحة ومنحازة .

وينطبق الأمر نفسه على مدح تاجر أو شركة عندما يجودان بتبرُّع هنا أو هناك، في الوقت الذي يعرف القاصي والداني أن المتبرع يقدم فتاتاً من جشع يمارس يومياً من دون رحمة أو ضمير . بغياب التقييم الموضوعي، الذي ينظر إلى الأمور من كل الزوايا، يتربع ذاك السارق على عرش الإطراء والتبجيل .

الأسلوبان والخطابان في التعامل مع تلك المشاهد الثلاثة، وهناك آلاف غيرها، هما أسلوبان وخطابان ذاتيَّان شخصيَّان أوسطحيان في أقل تقدير وأحياناً منحازان مراوغان عند البعض . إن عدم معرفة الملايين من شباب العرب كشفهما وعدم مقدرتهم على تجنب خداعهما هو أحد أسباب استمرار الصحف الصفراء، من طائفية أو نفعية اشترتها قوى في الخارج أو الداخل، في الصدور والانتشار، وهو أحد اسباب وجود مستمعين ومشاهدين لمحطات تلفزيونية فاجرة لئيمة لا تقدم إلا أنصاف الحقائق ولا تغوص في الأسباب ولا تشير إلى المسؤولين الحقيقيين المختفين وراء الأقنعة .

هناك قول لرسّام فرنسي إن الحقيقة موجودة، لكن الأكاذيب هي التي تُخترع . الذين يمارسون الأسلوب أو الخطاب الذاتي غير الموضوعي يعرفون الحقيقة، لكنهم عن قصد أو غير قصد، يغلفونها بألف حجاب حتى لا يراها الآخرون .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"