إرث بان كي مون إلى غيتريس

01:40 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. غسان العزي

كان وزير الخارجية الكوري الجنوبي بان كي مون مقرباً جداً من واشنطن، التي دعمت ترشيحه أميناً عاماً للأمم المتحدة خلفاً لكوفي أنان. عقد كامل قضاه على رأس المنظمة الدولية من دون القدرة على اجتياز الحواجز التي تعيق تقدمها أو تجسيد دوره ك «بابا الدبلوماسية»، فترك لخلفه البرتغالي أنطونيو غيتريس منظمة عالمية فقدت مصداقيتها في عالم أشد ما يكون بحاجة إليها.

في آخر مؤتمر صحفي له في 13 ديسمبر/كانون الأول الماضي قال بان كي مون: إن الحرب السورية هي أسفه الكبير، حيث فشل في فرض نفسه كمحاور أساسي، وهذا دور المنظمة في الأصل وسبب وجودها، وذلك بسبب شلل مجلس الأمن الناتج عن «الفيتو» الروسي المتكرر. لكن بان كي مون كان قد أنفق عاماً كاملاً قبل أن ينتبه إلى أن هناك أزمة خطيرة في سوريا، أي قبل أن يرسل مبعوثاً خاصاً هو كوفي أنان، ثم الأخضر الإبراهيمي، ثم دي ميستورا.

والحقيقة أن فشل كي مون لم يكن فقط من نصيب الملف السوري. فقد عجزت الأمم المتحدة، إلى الآن، عن الاتفاق على تعريف موحد واضح للإرهاب. فالمسألة «سياسية بامتياز» حتى تستحوذ على قبول 193دولة عضواً. لقد تبنّى الأمين العام خطة غير واضحة المعالم لمكافحة الإرهاب، عبر تشجيع وضع برامج وطنية ضد انتشار الإرهاب وتعاون دولي متزايد. لكنه فشل في خلق وظيفة «ممثل الأمين العام لمكافحة الإرهاب»، برغم أن منظمته تقبع في الخطوط الأمامية لمواجهة هذا التهديد، حيث إن سبعاً من أصل ست عشرة عملية حفظ سلام منتشرة في العالم مرتبطة بظروف مواجهة الإرهاب.

في ملف آخر هو النازحين، لم تعرف الأمم المتحدة في تاريخها مثل هذا العدد: 65 مليون شخص نزحوا من بلادهم أو داخلها هرباً من الصراعات. إنها الأزمة الأخطر التي تواجهها المنظمة الدولية منذ ولادتها في العام 1945. ذهب بان كي مون إلى جزيرة ليسبوس في اليونان لمطالبة أوروبا بأن تتعاطى مع أزمة النازحين بطريقة إنسانية تأخذ بالاعتبار حقوق الإنسان «فاحتجازهم ليس حلاً»، ولا الاتفاق بين أوروبا وتركيا لطرد النازحين الذين وصلوا إلى أوروبا بطريقة غير مشروعة.
حاول بان كي مون حث قادة العالم على توقيع ميثاق دولي حول اللاجئين. وعرض خطة تتضمن استقبال عشرة في المئة من اللاجئين في كل عام. لكن الدول التي اجتمعت في «القمة الخاصة حول اللاجئين» في الأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول الماضي فضلت تأجيل المسألة إلى العام 2018 بسبب عجزها عن الاتفاق على هذه الخطة الطموح.
في العام 2009 اتُهم بان كي مون بإغلاق عين الأمم المتحدة أمام مقتل 400 ألف مدني في الصراع السيريلانكي بين نمور التاميل وكولومبو،وأمام اضطهاد الصين للمثقفين، وذلك لعدم إغضاب بكين التي قد تحول دون تحقيق رغبته بالتجديد لولاية ثانية.

في هذه الولاية الثانية بدا الأمين العام للأمم المتحدة أقل تحفظاً مما كان عليه، إذ دافع عن المثليين والزواج المثلي وأعطى لموظفي الأمم المتحدة من المثليين الحقوق نفسها التي لغيرهم. كذلك أنشأ جهاز «نساء أمم متحدة» للدفاع عن حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين، برغم أن منظمته لاتزال بعيدة عن هدفها الذي حددته منذ عشرين عاماً، وهو المساواة في عدد الوظائف بين الذكور والإناث.

أما البيئة فهي «الأولوية الأهم للإنسانية» كما قال، عندما وعد بأن تشهد ولايته الثانية توقيع اتفاق تاريخي شامل حول المناخ. وبالفعل هذا ما حصل، بعدما تحرك الرجل لدى زعماء دول عديدة، فقد دخل اتفاق باريس حيز التنفيذ في سبتمبر/أيلول الماضي. وغداة انتخاب ترامب الذي وعد بإلغاء هذا الاتفاق، توجه له بان كي مون في مؤتمره الصحفي الأخير بالقول «ليس هناك من عودة إلى الوراء»، وكأن الأمم المتحدة قادرة على ردع رئيس القوة الأعظم في العالم!!
توخياً للموضوعية على الأقل، وإنصافاً للرجل يمكن القول إن فشل الأمم المتحدة المتكرر حيال الحروب والنزاعات سببه الأساسي الشلل الناتج عن استخدام القوى العظمى لحق النقض-الفيتو، ولا يستطيع الأمين العام حيال ذلك شيئاً فهو «مجرد موظف وإن كان الأعلى»، كما وصفت وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت كوفي أنان، عندما حاول مرة التصرف باستقلالية عن واشنطن.
وحتى الدول غير العظمى لا تتردد في مواجهة الأمم المتحدة، والأمثلة على ذلك كثيرة، في مطلعها «إسرائيل» التي تحتقر المنظمة ولا تنفذ أياً من قراراتها.

منذ عشر سنوات وعد بان كي مون بأن يكون «صوت الذين لا صوت لهم في الأمم المتحدة»، و«محامي المهمشين والذين ليس من يدافع عنهم». هؤلاء لايزالون على حالهم بل ربما أسوأ. وهو يعود إلى بلاده حاملاً طموح الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة بالاعتماد على شعبية واسعة، ودعم من الحزب المحافظ الذي يجد في ترشيحه الحل الوحيد لتفادي الهزيمة المدوية، بسبب فضائح الفساد التي تحيط به. فالرئيسة الكورية-الجنوبية بارك غون-هاي تواجه إجراءات قضائية لتنحيتها بسبب تورطها بفضائح فساد. بان كي مون نفسه اتهمته صحيفة «ليزا - إن» الأسبوعية بأنه تلقى رشوة بقيمة 230 ألف دولار من رجل أعمال، وذلك في العامين 2005 و2007، وقد تناقلت صحف عالمية هذا الخبر، كما طالب «حزب مينجو» المعارض بالتحقيق فيه.
وهكذا لا يذهب بان كي مون إلى التقاعد، بل إلى محاولة استثمار موقعه السابق على رأس المنظمة الدولية في الوصول إلى الموقع الأعلى في بلاده.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"