"إسرائيل" وأزمنة الكوليرا

03:59 صباحا
قراءة 3 دقائق

تعيش إسرائيل منذ شهور عدة في فضاءات شبيهة بأزمنة الطاعون والكوليرا، وفق تعبير أحد المعلقين السياسيين الإسرائيليين، حيث يسعى سياسيوها إلى إحداث تنويعات داخلية على نغم التطرف والاستيطان من أجل ربح مزيد من الوقت، في سعي هستيري من أجل الالتفاف على مختلف محاولات الضغط السياسي التي تمارسها بعض القوى الغربية على الواجهة السياسية لنظام القمع الإسرائيلي، وهي المحاولات اليائسة نفسها التي تتكرر في كل مناسبة بغرض دفعه إلى تقديم بعض التنازلات المحتشمة في ملف المفاوضات مع الجانب الفلسطيني . والحقيقة أن إسرائيل ومنذ اغتيال إسحاق رابين لم تتوقف عن ممارسة سياسة واحدة وفق تسميات إشهارية متعددة، حيث إن زعماء حزب العمل أصبحوا يمثلون السند الأكبر لكل حكومات اليمين المتعاقبة على السلطة في إسرائيل، وأضحى إيهود باراك يمثل الشخصية المفضلة بالنسبة لوزارة الحرب الصهيونية، كما تحول شعار حكومة الوحدة الوطنية إلى ما يشبه الوصفة السحرية لمجمل فسيفساء التطرف في إسرائيل .

وعليه، يمكننا ملاحظة أن من الأمور اللافتة للانتباه بالنسبة لكل المتتبعين لشطحات السياسة الصهيونية، هو أن التطرف والابتزاز يمثلان وجهين لقطعة نقدية واحدة بالنسبة لأبجديات الممارسة السياسية في إسرائيل، فقانون الأغلبية النسبية التي يراهن عليها زعماء المؤسسة الأمنية والعسكرية في إسرائيل من أجل إطالة عمر الاحتلال ومن أجل الحيلولة دون الوصول إلى توقيع اتفاقية سلام حقيقي مع الجانب العربي، يهدف كذلك إلى إفراغ أي معارضة محتملة من محتواها الحقيقي، وتحويلها إلى ما يشبه الديكور السياسي الشاحب، وقد أوضح الابتزاز الذي مارسه نتنياهو من أجل اختراق صفوف حزب كاديما، لكل الأطراف أن زعيمة المعارضة الحالية لا تملك من سلطة المعارضة إلا الاسم . لأن ليفني عليها أن تختار بين السيئ والأسوأ، أي بين موفاز ونتنياهو، وباختصار بين أن تحافظ على حزب لا يتنفس السياسة إلا كما يتنفس زعيمه التاريخي شارون الحياة من خلال أنبوب اصطناعي، وبين أن تعود إلى بيت الطاعة الذي ترمز له عباءة حزب الليكود، الذي لا يزال يمثل حتى الآن العنوان الحقيقي للهوية الإسرائيلية . تلك الهوية العنصرية الاستيطانية التي يسعى المدافعون عنها إلى خلق وضع جديد داخل أراضي السلطة الفلسطينية من أجل تحويل الأنظار عن الوضع الداخلي الصهيوني، مع السعي الحثيث من أجل حرمان الفلسطينيين من حقهم في رسم استراتيجيتهم الوطنية . لأن إسرائيل ستظل تملك في اعتقادهم الحق، دون غيرها، في تحديد توقيت حربها وفي إعلان سلمها، وبالتالي فهي ترى أنها هي التي فرضت على حركة فتح إعلان سلمها، وتريد أن تحدد لها توقيت استئناف مقاومتها المسلحة من خلال اغتيالها بدم بارد لكوادر من الجناح العسكري للحركة التي يقودها رئيس السلطة، الذي يطمح إلى مغادرة عالم السياسة الدولية بشرف، في الوقت الذي تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى إخراجه من البوابة الضيقة، كما سبق لها أن فعلت مع أسلافه من القادة الفلسطينيين .

لا شك في أن ليفني ليست أقل تطرفاً من طاعون نتنياهو ولا من كوليرا موفاز، خصوصاً أنها الابنة الشرعية والوفية لعصر الأوبئة الجديدة، الممتد من إنفلونزا الطيور وصولاً إلى إنفلونزا الخنازير، لكن خطأها البسيط بالنسبة لقيادة الموساد التي أشرفت على تدريبها يكمن في أنها تريد أن تزايد على خصومها السياسيين في مجال ما يسمى الاعتدال السياسي في مواجهة الإستراتيجية الأمريكية، التي يحاول أوباما أن يبلورها بكثير من التردد والاستحياء الشديدين . ويمكن القول تأسيساً على ما سبق أن الزمن الإسرائيلي الراهن، هو زمن للطاعون والكوليرا ولا مكان فيه لأوبئة جديدة لم يتم حتى الآن اختبار قدراتها الجرثومية الفتاكة بشكل منهجي . وعليه، فإن الحكومة الإسرائيلية الحالية ماضية بخطى حثيثة نحو إعادة رسم ملامح الشرق الأوسط الجديد من خلال الدفع باتجاه مزيد من الفوضى والاقتتال الداخلي بين الفلسطينيين، كما ستعمل بكثير من الاجتهاد والمثابرة من أجل حرمان الفلسطينيين من تشكيل نخبة سياسية جديدة تحظى بالمصداقية والقبول بالنسبة لأغلب الأطراف السياسية المتصارعة، حتى تجهض بشكل نهائي حلم الدولة الفلسطينية المستقلة .

لقد أبان الجسد الإسرائيلي المزركش بدم الأبرياء أنه يملك مناعة أسطورية وغير مسبوقة ضد كل فيروسات الاعتدال والسلام، وأنه يملك قدرات فائقة على إجهاض كل المحاولات الهادفة إلى دفعه من أجل تبني خيارات المصالحة وقيم العيش المشترك مع الآخرين، ليثبت للجميع بكل جدارة واستحقاق أنه يمثل تجميعاً لركام من الحثالة البشرية التي لا يمكنها العيش بعيداً عن أجواء الحرب والدم والدموع .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"