إفريقيا ورهانات القوى الكبرى

05:10 صباحا
قراءة 4 دقائق

تعيش القارة السمراء منذ عقود طويلة على وقع تحولات كبيرة مست كل المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية، ولن نذيع سراً إذا قلنا إن جانباً كبيراً من هذه التحولات يعود إلى أسباب ترتبط بالتدخلات الأجنبية في شؤون هذه القارة الغنية بمواردها الطبيعية . كما أن القوى الاستعمارية القديمة وفي مقدمها بريطانيا وفرنسا، كانت ومازالت لها تأثير كبير في مسار الأحداث، خاصة ما تعلق منها بالحروب العرقية والقبلية التي مزّقت أوصال الكثير من البلدان والمجتمعات الإفريقية، وقد مثّل انفصال جنوب السودان عن الدولة الأم في الشمال، أحدث حلقة في مسلسل التحولات الجيوسياسية التي كانت القارة الإفريقية مسرحاً لها خلال العقدين الأخيرين .

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الحديث عن الشؤون الداخلية لهذه القارة عاد إلى الواجهة في الفترة الماضية، ليتزامن مع الزيارة الأخيرة التي قادت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون إلى عدد كبير من الدول الإفريقية التي تمثل أهمية استثنائية كبرى بالنسبة إلى السياسة الإستراتيجية لواشنطن في هذه المنطقة، حيث باتت تشهد صراعاً كبيراً على مراكز النفوذ بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين إضافة إلى فرنسا وبريطانيا . وتحديداً في هذه الفترة التي بدأ يأخذ فيها هذا الصراع، أبعاداً جدية منذ أن اختارت الصين أن توجه قسماً كبيراً من اهتماماتها الدولية نحو المسائل والقضايا المتعلقة بشؤون التنمية في هذه القارة، وذلك من خلال تنفيذها لمشاريع استثمارية كبيرة في العديد من الدول، الأمر الذي دفع الدول الغربية إلى إعادة تقييم سياستها في المنطقة، مستندة في ذلك إلى أحدث المؤشرات الاقتصادية التي أبرزت أن معدل النمو الاقتصادي في هذه القارة، يعد من المعدلات العالية في العالم، خاصة في هذه الفترة التي تشهد الاقتصادات الغربية تباطؤا في النمو وصل إلى مرحلة الركود في بعض البلدان الأوروبية . ويمكن القول إن شعور الدول الغربية بالخطر نتيجة الانتشار الاقتصادي السريع للصين في دول القارة السمراء، ناجم عن الأسلوب السلس الذي ميز سياسة بكين في هذه القارة . فالصين، وعلى خلاف الدول الغربية، حاولت أن تقيم علاقة شراكة اقتصادية قوية مع الكثير من الدول الإفريقية من دون أن تفرض عليها شروطاً سياسية مجحفة، خاصة ما تعلق منها بملف حقوق الإنسان الذي تستعمله المنظمات الغربية غير الحكومية كحصان طروادة، من أجل التأثير المباشر في السياسات الداخلية للدول . كما أن كلفة المشاريع التي أنجزتها الصين في هذه القارة أقل بكثير من معدل كلفة المشاريع التي تسهر الدول الغربية على تنفيذها في مجمل الدول الإفريقية، وفضلاً عن ذلك، فإن الصين قامت بتقديم قروض كثيرة بشروط ميسّرة للدول الإفريقية التي كانت تعاني صعوبات مالية مزمنة، وقد أسهمت كل هذه العوامل في ترجيح كفة الصين على حساب الدول الغربية، رغم لجوء هذه الأخيرة إلى ممارسة ضغوط سياسية كبيرة من أجل الحد من سرعة انتشار النفوذ الصيني في القارة السمراء .

وليس خافياً أن تتزايد وتيرة هذا السباق الدولي المحموم من أجل الظفر بحصص سوقية في إفريقيا، بالتزامن مع صدور عدد من الدراسات الاقتصادية الحديثة التي تفيد أن مجموع دول العالم بما فيها دول آسيا، ستشهد تراجعاً محسوساً في نسب النمو قياساً إلى دول إفريقيا الواقعة جنوب منطقة الساحل التي تبرز مختلف المؤشرات، أنها ستشهد - في الفترة المقبلة- نمواً اقتصادياً معتبراً، لاسيما إذا أخذنا في حسباننا، أن العديد من دول القارة باتت تحرص على إنجاز مشاريع كبرى تتعلق بالبنى التحتية، من منطلق أن هذه الدول مازالت تمثل- في مجملها- منطقة بكراً تحتاج إلى استثمارات ضخمة وهائلة، من أجل تأهيل اقتصاداتها وجعلها قادرة على الدخول في معترك المنافسة الدولية .

وعليه فإنه علاوة على الأسباب الاقتصادية لهذا التنافس الاقتصادي الغربي- الصيني، فإن الصراع على مراكز النفوذ في إفريقيا يمكن تفسيره انطلاقاً من عوامل جيوسياسية وجيواستراتيجية، لأن الموقع المتفرد والحيوي للقارة السمراء يؤهلها لأن تقوم بدور حاسم في أي صراع مستقبلي، وتحديداً إذا علمنا أن إفريقيا لا يفصلها عن أوروبا سوى شريط مائي لا يتجاوز 14 كيلومتراً عبر مضيق جبل طارق، ولا يبعدها عن قارة آسيا سوى قناة السويس . وبالتالي فإن الصين تطمح إلى بناء قاعدة اقتصادية قوية في بعض الدول الإفريقية، يمكن أن تسمح لها مستقبلاً، بالدخول إلى الأسواق الأوروبية بكل سهولة ويسر . ولأن الجغرافيا تؤدي دوراً كبيراً في رسم وتوجيه السياسة، فإن الغرب وفي مقدمه الولايات المتحدة الأمريكية لا يريد أن تتحول إفريقيا إلى منطقة نفوذ صينية قابلة لأن توظف ورقة ضغط من أجل حسم الرهانات السياسية الكبرى التي يبدو أن العالم مقبل على خوض معارك كبرى بشأنها .

من الواضح وفق ما تقدم، أن الصراع على رقعة الشطرنج العالمي سيتم حسمها، وفق تحليلات الكثير من الخبراء فوق الأرض الإفريقية، وستنتهي اللعبة بسقوط الملك في إحدى الزوايا الشاسعة لهذه الرقعة الفسيفسائية . ومن المرجح أيضاً أن تكون إفريقيا المكان المفضل الذي سيعلن فيه الفائز عن انتصاره على بقية الخصوم، وهذا ما يدفعنا إلى القول إن الوطن العربي مدعوٌ إلى بذل مزيد من الجهود من أجل إعادة التمركز في هذه القارة التي مازالت إسرائيل تحاول توظيف جغرافيتها السياسية من أجل التأثير في الأمن القومي العربي، خاصة في المنطقة المحيطة بدول حوض النيل، ودول الساحل جنوب الصحراء الكبرى .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"