اختلاف الثقافات

04:58 صباحا
قراءة 3 دقائق
د.مصطفى الفقي

إن المدقق في الساحة العالمية يدرك أن هناك إشكالية معقدة تتمثل في التعارض بين فكر العولمة والانفتاح الدولي ومفهوم القرية الكونية في ظل التطورات الباهرة في ميدان العلم خصوصاً في مجال تكنولوجيا المعلومات وذلك كله في جانب وبين التعددية العرقية والتعصب للهوية القومية في جانب آخر على نحو أدى إلى تفتيت عدد من الدول وتفكيك بعضها الآخر مثلما حدث منذ انتهاء الحرب الباردة حتى اليوم، ولعل المنظور الذي يهمني هنا ينطلق من تأثير الاختلافات الثقافية على شكل العلاقات الدولية وطبيعة الصراعات الراهنة، فأنا ممن يظنون أن الثقافة أصبحت عاملًا فاعلًا في تحديد العلاقات المعاصرة بين الأمم والشعوب ولقد ضربت دائماً المثل ب (الهوة السحيقة) بين (ابن لادن) وهو يتكئ على عصاه في (تورا بورا) بينما (جورج دبليو بوش) يجلس في القاعة البيضاوية الفخمة في (البيت الأبيض) وهما ندان في صراع مكتوم يمثل فيه الخلاف الثقافي بعداً كبيراً وبوناً شاسعاً، وقد لا نذهب بعيداً إلى المستوى الدولي ففي المستوى المحلي أيضاً هناك فارق بين من درس في مدارس أجنبية وتخرج من جامعات غربية في حواره الصامت مع ابن وطنه الذي درس في مدرسة عامة أو دينية ولم ير الخارج فتحددت له نظرة مختلفة تجعل الهوة الثقافية بين الاثنين عاملًا للانقسام وسبباً للفرقة إن للثقافة مدلولاً واسعاً فهي تتصل بالملبس والمأكل واللغة وقد تتأثر أحياناً بالديانة أيضاً وهي عوامل قد لا تجتمع كلها ولكن يكفي بعضها لإحداث أسباب الخلاف وعوامل التباين، ولعلي أرصد هنا الملاحظات التالية:
أولاً: إننا عندما نتحدث عن الاختلافات الثقافية فإننا لا نقصد بذلك الخطاب الثقافي وحده ولكننا نقصد أساليب الحياة وطرائق المعيشة وأولويات العقل الجمعي واهتماماته المختلفة فالثقافة لها مفهوم أوسع بكثير مما نتخيل، فضلاً عن أنها تعبير مباشر عن الهوية لذلك فإن سلوك المجتمعات وشخصية الشعوب تقاس في النهاية بذلك المفهوم الواسع للثقافة.
ثانياً: إن الغريب في الأمر أن بعض الثقافات تتخذ مواقف عنصرية متشددة تبدو غريبة عن المسيرة الطبيعية للحياة لندرك معها أن هناك ما يمكن تسميته للأسف ب (ثقافة الكراهية) بما تبثه من نعرات ذاتية ومشاعر عدائية تجاه الآخر الذي لا تعترف به أو على الأقل تنكر وجوده، وفي ظني أن ثقافة التعصب هي واحدة من آفات العصر وهي تعبير عن اتجاه عكسي لروح الانفتاح التي يجب أن تسود بل والتسامح الذي يجب أن يزدهر.
ثالثاً: إن الأصل في الثقافة أنها نسق حضاري يؤدي إلى التواصل لا الانقطاع ويدفع نحو التعاون المشترك من أجل المفهوم الشامل للتقدم الإنساني، وبذلك فإن ثقافة الإقصاء وتكريس الاختلافات هي ثقافة عرجاء لا تعبر عن ضمير البشر ولا روح العصر كما أنها تؤدي إلى تفاقم المشاعر المعادية لمسار الحياة الطبيعية وتنفث طاقة سلبية تؤدي إلى النزاعات والصدامات والحروب.
رابعاً: كنا نتحدث من قبل عن حرب باردة سياسياً ثم أردفنا بعد ذلك بالحديث عن حرب باردة اقتصادياً، والآن دعنا نسمي الأمور بمسمياتها لكي نتحدث عن حرب باردة ثقافياً فيها كثير من العبث والسطو على الآخر، ولعلي أذكر الجميع بادعاءات «إسرائيل» تجاه الأهرام التي بناها المصريون وصولاً إلى طبق الفول ونظيره من الفلافل وكأنها أكلات هم أصحابها، وتلك محاولة فجة للتعبير عن الكراهية وثقافة البغض وسرقة براءات الاختراع الحضارية بدعوى التقارب الجغرافي أو التواجد التاريخي.
خامساً: إن وسائل الإعلام المعاصرة تقرب بين الثقافات في اتجاه وتباعد بينها في اتجاه آخر، وهو أمر يدعو إلى القلق والتساؤل حول جدوى الشعارات المرفوعة والأفكار المطروحة حول العولمة وآثارها إذا كان يقابلها على الجانب الآخر نظرية مختلقة تتحدث عن صراع الحضارات وتفتح باباً للمواجهة والصدام بديلاً للانفتاح والتواصلد.
هذه ملاحظات يسوقها كاتب هذه السطور وهو صاحب الدعوة منذ سنوات إلى عقد قمة ثقافية عربية تكون مؤشراً لوعي عربي جديد يدرك أهمية العامل الثقافي في عالمنا المعاصر ويستطيع أن يقدم صياغة جديدة لثقافة عربية حديثة تتوقف عن البكاء على الأطلال وترديد أشعار الحماسة حتى تستطيع أن تساير أفكار العصر واختياراته بلا عنصرية أو تعصب أو تطرف، إنها قضية حياتنا فالواقع الاقتصادي يمكن إصلاحه بحزمة من القرارات، والمسرح السياسي يمكن إعداده ببعض الرؤى، أما الظاهرة الثقافية فهي مركبة بطبيعتها تتصل بسلوك الإنسان وطريقة تفكيره وترتيب أولوياته، من هنا فإننا نقول إن الاختلافات الثقافية هي أخطر المؤشرات للتباعد بين الأمم وصنع الحواجز بين الشعوب بل وإقصاء بعض المجتمعات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"