اسطنبول «حريم السلطان»

00:53 صباحا
قراءة 5 دقائق
}} انفتح العرب خلال العقد الأخير، انفتاحاً «سياحياً» كبيراً على اسطنبول، بفضل المسلسلات التلفزيونية المدبلجة بلهجة سورية رقيقة، وأول هذه المسلسلات، كان يدورحول المدعو (مهند).. الفتى الوسيم العاشق، عارض الأزياء، وذلك القصر الفخم، على ضفة البوسفور، ومن (مهند) و(عودة مهند) واسمه التركي الأصلي هو (كيفانش) وتعني بالعربية الفخر، إلى مسلسل تاريخي اسمه (حريم السلطان)، ويقدم صورة حياة السلطان العثماني سليمان القانوني، الذي قضى نحو ستة وأربعين عاماً على قمة السلطة، وأوصل الدولة العثمانية إلى ذروة مجدها، خلال القرن السادس عشر.. كما يستعرض المسلسل ظاهرة الجواري والمكائد والاغتيالات، والصراعات على السلطة والتقاتل بين الأبناء.. إلخ.. ومازال حبل المسلسلات التركية على الجرّار.

}} ذكّرني هذا الانفتاح السياحي على اسطنبول والغرام «غير السياسي» بها، بفورة اكتشاف كتّاب غربيين، لهذه المدينة الجميلة، في إطار غرامهم الرومانسي بالشرق، وهوسهم بالمغامرة.
}} ترجم مستشرقون أساطير تركية، وحكايات شرقية أخرى لشهرزاد في ليالي «ألف ليلة وليلة»، وعلي بابا والسندباد وعلاء الدين ومصباحه السحري، وقد تم تمثيل بعض هذه القصص على المسرح، وغذّت هذه الأعمال الأدبية المترجمة خيال الشعوب الأوروبية، وتأويل الشرق بشكل عام، وترسيخ صورة ساحرة غامضة عن الحياة العربية والإسلامية في الشرق، ملأى بالفجور والقسوة والخداع والبربرية، وترافقت معها أفكار شائعة، وأوصاف بذيئة حول الإسلام.
}} وصوِّرت نساء الشرق، كموضوعات جنسية، ووفرت هذه المعرفة المتعصبة والمعلولة، مادة خصبة للمدرسة الاستشراقية في الرسم، حيث تبدو في اللوحات مخادع الحريم والمحظيات والحماّم التركي، و«الأرجيلة» المخصصة لتعاطي الحشيش. وما أكثر اللوحات التي رسمها مستشرقون ورحالة، عن أسواق العبيد، والنساء العاريات والمنحرفين من الرجال.
}} لكن هذا لا يعني أن كل المستشرقين كانوا «أنذالاً»، في رؤيتهم التأويلية للمسلمين والعرب، لقد كان هناك مستشرقون محايدون ومنصفون، من بينهم (غوستاف لوبون) في كتابه عن حضارة العرب الصادر في أواخر القرن التاسع عشر، والذي قال فيه: «إن الجامعات الأوروبية، كانت تعتاش، على جهود المسلمين الثقافية لأكثر من خمسمئة عام».
}} انجذب إلى اسطنبول، فنانون ونحاتون ورحالة وكتّاب، طوال القرون الخمسة التي سبقت القرن العشرين، ورسم فنانون (بورتريهات) لمعظم السلاطين. ورسموا حياتهم وقصورهم وحروبهم وحريمهم، وها هي متاحف أوروبا وروسيا وأمريكا، تعجّ بصور الاستشراق. وأسهم هذا الرسم الاستشراقي إسهاماً كبيراً في نشر الصورة السلبية للمرأة الشرقية، وقد بلغت لوحات المستشرقين أسعاراً قياسية.

}} وفي الرسوم الاستشراقية، تبدو النساء الشرقيات، ناعمات وجميلات، وغالباً ما يشكلن تناقضاً مع قبح الرجال المرسومين وفظاظتهم ومع لون بشرتهم الغامقة، لا أحد من رسامي الاستشراق تخيل رسماً يحمل جمال (مهند) التركي المعاصر، أما النساء الشرقيات فيشبهن نموذج الجمال الأوروبي، وببشرة ذات شحوب أرستقراطي، ولا تبدو عليهن أية ملامح شرقية، ولا يفعلن شيئاً سوى الاستلقاء أو النعاس أو الرقص.

}} تجاهل هذا النوع من الاستشراق، منجزات الشرق العلمية والمعرفية، ونزع السمات الإنسانية عن أهل الشرق، وبخاصة العرب، وارتبطت صورة الشرق في كثير من أعمال الاستشراق الأدبية، بنعوت «مظلم» و«متعصب» و«غير عقلاني»، وهي التعابير ذاتها المناقضة للصفات التي كانت تتباهى بها الحضارة الغربية.
}} وبشكل عام حُمِّل ذنب هذا التأخر للإسلام، مثلما فعل الرسام ديفيد روبرتس، الذي اقتنيت العديد من لوحاته (المطبوعة) أثناء زياراتي إلى القاهرة وواشنطن، وقد تحدث روبرتس، في منتصف القرن التاسع عشر، بإعجاب عن مدن عربية، ورسمها كآثار وأطلال، لكنه اعتقد أن هذه المدن، تحولت إلى أماكن مهجورة، بسبب سوء الإدارة النابع من نظرة المسلمين إلى العالم وبربريتهم.
}} لكن، مازال مفهوم الشرق ملتبساً لدى الناس، حتى يومنا هذا في مراحل متعددة، قال مستشرقون إن الشرق هو الأراضي التي تقع شرق الغرب الأوروبي، وهذا يعني كل الشرق الأوسط بما فيه شمال إفريقيا، إضافة إلى الهند والصين وفارس وغيرها، ويعكس هذا المعنى، نظرة كل ثقافة أو ديانة إلى نفسها باعتبارها مركز الأرض، وربما «سرّة» العالم.
}} لقد كانت الهند والصين واليابان جزءاً من الشرق قروناً طويلة في نظر الغرب، وحينما كانت اليونان وأجزاء واسعة من البلقان جزءاً من الدولة العثمانية، اعتبرها الإدراك الأوروبي جزءاً من الشرق أيضاً.

}} وهكذا فإن نظرة الغرب تجاه مفهوم الشرق، ظلت عبر العصور متغيرة وفضفاضة، تفتقد الدقة، ووصفها باحثون بأنها مثل «المرآة»، لم ير فيها الغرب سوى نفسه، وتنعكس فيها خيالات ومخاوف ومنافع وتصورات كثيرة وأحكام مسبقة، وصور متناقضة.

إن التنوع الجغرافي واللغوي والعرقي والثقافي والديني للشعوب التي تقطن «الشرق» وفق المفاهيم والتصورات المتغيرة للغربيين، هو من الاتساع والتعقيد، ما يجعل من استخدام هذا المصطلح، نوعاً من المغامرة، وغير دقيق جغرافياً أو ثقافياً أو واقعياً.

}} في نهايات القرن التاسع عشر، حددت أمم غربية، موقع المرصد الفلكي البريطاني في قرية (غرينتش) في ضواحي لندن، كخط للطول، وجرى تقسيم العالم، بناء على قرار سياسي إلى قسمين يلتقيان في (غرينتش)، وبذلك حددت الإمبراطورية البريطانية والتي كانت تسيطر على أعالي البحار، بأنها تقع في وسط الأرض، وسرّة العالم.
}} في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت اسطنبول من أهم الأماكن المفضلة للسياحة والمغامرة واستكشاف ما سموه ب«الشرق»، وحمل قطار «الشرق السريع» الأسطوري، المغامرين والمسافرين الأثرياء من باريس إلى اسطنبول.
}} ويتذكر جيلنا رواية الكاتبة البوليسية (أغاثا كريستي)، في أوائل النصف الثاني من القرن العشرين، والتي تحولت إلى فيلم سينمائي بعنوان (جريمة في قطار الشرق السريع).
}} يتذكر بدايات الفيلم، وتصويره للفوضى والغموض والجو الغرائبي في محطة القطار في اسطنبول، وبائعي السجاد، وماسحي الأحذية وقطعان الماعز، وفتيات الحريم والحب والشاعرية والطربوش الأحمر.. إلخ.
}} يبحث «سائح» هذه الأيام من أبناء يعرب ونسائه، عن «ظلال» حريم السلطان، وأشباه المحبوبة الرقيقة المظلومة «نور»، ولا يجد شبهاً للوسيم عارض الأزياء (مهند)، في شوارع اسطنبول وأسواقها، ومطاعمها، ومتاحفها ومساجدها، يبحث عن الأماكن التي وصفتها المسلسلات التلفزيونية، فلا يجدها.
}} قد يستحضر «سائحنا»، شيئاً من صعود وهبوط الدولة العثمانية، كما قرأها في الكتب المدرسية، وقد يقرأ عن الرئيس التركي أردوغان، وهو يستعرض ثلة من الجند، في مراسم افتتاح قصره الجديد، والذي بني على طراز يمزج بين الهندسة المعمارية السلجوقية والعثمانية، والجند يرتدون ملابس متنوعة كثيرة الألوان المزخرفة، في محاولة استعراضية لاستحضار التاريخ العثماني، ولعله لا يدري، أن التأثير الصيني في تصميم ملابس الحرس وموظفي البلاط العثماني وقادة الجند، كان قوياً حتى القرن التاسع عشر.
}} ظلت اسطنبول مركزاً للحكم العثماني منذ 1465 حتى 1853، وكان السلطان يطلق عليه في أرجاء الدولة العثمانية اسم (الباب العالي)، نسبة إلى القصر الذي يسكنه.. ومن حسن الحظ، أن الرئيس التركي أردوغان، اكتفى بتسمية قصره الجديد على مشارف أنقرة «القصر الرئاسي»، فهل انتهت أحلام «الباب العالي»؟

د. يوسف الحسن

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"