الأستاذ هيكل شاهد على القرن

04:26 صباحا
قراءة 3 دقائق
د.عبدالعزيز المقالح

غيَّب الموت منذ أيام نجماً مرموقاً من نجوم الصحافة والفكر والسياسة هو الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل، بعد صراع مرير مع مرض قصير، وصراع أمرّ وأطول مع الواقع العربي الراهن في تشظياته وانقساماته وحروبه التي لا تعني شيئاً بل تكرس للتخلف والتبعية.
ومن المحزن أن يغمض الموت عيْنَي شاهد القرن وفارس الكلمة في الوقت الذي يعاني الوطن العربي التردي ويواجه أعداء الداخل والخارج في وقت واحد، ومنذ أواخر خمسينات القرن الماضي وحتى رحيله كانت للأستاذ هيكل أحلام كبرى تأخذ صورة الوطن الواحد القادر على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية بثقة واقتدار. وكان واضحاً في السنوات الخمس الأخيرة أن الأستاذ هيكل يعيش حالة من القلق والشعور بالخوف على ضياع مكاسب الحد الأدنى من التضامن العربي، وأن ظروف ما بعد الانتفاضات العفوية هنا وهناك قد جعلته يدرك أن شيئاً ما خطراً ومرعباً يُعدُّ للأمة العربية وللمنطقة بأكملها، وأن ما لم تتمكن قوى الهيمنة من تحقيقه في نصف قرن قد أصبح بالنسبة لها ممكناً وسهل المنال.
كان ذلك واضحاً من خلال كتاباته ومقابلاته الصحفية والتلفزيونية، فقد كان لا يخفي شيئاً مما يراه من وجهة نظره، خطراً ومهولاً ويمس من قريب أو بعيد روح الأمة وكيان الوطن الكبير، كان صريحاً أكثر مما ينبغي وصادقاً في كثير مما ذهب إليه في تحذيراته ونصائحه التي حاول جاهداً ألا يخص بها طرفاً دون آخر من الأطراف المعنية بمستقبل الوطن العربي ومستقبل أجياله القادمة.
كان يلاحظ بعمق أثر الخلافات وما يترتب عليها من تمزيق أواصر الأخوة وتدمير ما تبقى من جسور التفاهم بين الأخوة الذين لم يكونوا قد صاروا أعداء بعد، وكان في الوقت نفسه يرقب أبعاد المطامع، القريب منها والبعيد، وكيف يتوحد المتناحرون والمتقاتلون في موضوع واحد هو القضاء على كل ما يمكن أن يجعل العرب - وهم أبناء أمة واحدة - يتوحدون ويحافظون على الكيان العربي بما يمثله من ثقل دولي ومن قوة محلية تحمي نفسها وتجعل عدوها - أياً كان - يحسب لها ألف حساب قبل أن يفكر في الاقتراب من حدودها الجغرافية والمعنوية.
كانت أفكار الأستاذ هيكل ومقارباته السياسية واضحة وصريحة كما كان عنوانها في الزمن الجميل «بصراحة» وكان جهده يتركز على بقاء الأمة العربية موحدة الصف والموقف غير منقسمة ولا متشظية، وأن تكون مواقفها العلنية منها والسرية غير ملتبسة يفهمها الصديق والعدو على حد سواء. وكان - يرحمه الله- يحب الذين يختلفون معه في الرأي وقد حدثني صديق لي وله أنه حين كان يلتقيه في مكتبه أو في منزله الريفي يقول له «اختلف معي ولا توافقني في كل ما أطرحه عليك»، وكنت قد قابلته ثلاث مرات كانت واحدة منها قبل النكسة بثلاثة أيام فقط فقد كنت مشاركاً في مؤتمر الصحفيين العرب الذي كان يرأسه نقيب الصحافة اللبنانية آنذاك رياض طه تأييداً لمواقف الرئيس جمال عبدالناصر. وأتذكر حتى الآن ملامح الأستاذ هيكل وقلقه الواضح وخلو حديثه من النكتة والابتسامة وقد أبدى امتعاضه من الاستعراضات العسكرية وارتفاع نبرة «البروباغندا» وحاول بعض الصحفيين تبرير ذلك فلم يزده التبرير إلا إصراراً على موقفه الرافض والممتعض ولا أظن إلا أن عدداً من حضور ذلك اللقاء قد تذكروا كلماته بعد وقوع النكسة مباشرة.
إن غياب شاهد القرن عن ساحتنا وهي تعاني، يشكل خسارة كبيرة ليس لخبرته الطويلة والكبيرة في عالم الصحافة فحسب، بل لما استوعبه عبر العقود الماضية عن عالم السياسة من تجارب لم يحظ بها صحفي غيره ليس في الوطن العربي، بل في العالم كله. ولهذا فقد كانت الصحافة العالمية في الغرب والشرق تستدعيه إلى الكتابة لها واثقة من صدق رؤيته وعمق تحليلاته.
أخيراً، فإننا عندما نتحدث عن الموتى الأحياء تكون الكلمات عصية وثقيلة الحركة على الورق الأبيض الذي يأخذ معها لون السواد.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"