الألعاب الأولمبية والنظام العالمي

05:15 صباحا
قراءة 4 دقائق

كانت الألعاب الأولمبية خلال الحرب الباردة سلاحاً من أسلحة هذه الحرب . في البداية كان الاتحاد السوفييتي ينظر إليها كممارسة بورجوازية قبل أن يقرر ستالين الانضمام إليها في هلسنكي في ابريل/نيسان ،1951 آملاً في استخدامها منصة لدعاية كونية لالقوة العظمى السوفييتية والمجتمع الاشتراكي والإيديولوجية الشيوعية . وكانت ألعاب هلسنكي ساحة لحرب رياضية حقيقية بين المعسكرين الإيديولوجيين المتنافسين، وتمكنت دول المعسكر الشرقي السابق من حصد عدد كبير من الميداليات واحتل الاتحاد السوفييتي مركز الصدارة . ومنذ ذلك الوقت وطوال الحرب الباردة حل الصراع الرياضي المباشر بمناسبة الألعاب الأولمبية الدورية مكان الصراع العسكري الذي لم يكن مباشراً بل بالوساطة عبر ما سمي بدول المحيط وكلها من العالم الثالث .

انتشرت ظاهرة مقاطعة الألعاب على خلفية التوترات السياسية، كما حصل في هلسنكي التي قاطعتها دول عديدة، وألعاب موسكو أيضاً في العام 1989 قبيل انهيار جدار برلين . لا ننسى أيضاً أن التوترات داخل المعسكر نفسه كانت تنتقل الى الألعاب الأولمبية، كما حصل في ملبورن في استراليا العام 1956 على خلفية اجتياح الجيش الأحمر لبودابست، فقد تمكنت الشرطة الأسترالية من الفصل ما بين الفريقين الهنغاري والسوفييتي المتعاركين، كما تمكنت من تفادي مجزرة حقيقية كاد الجمهور المتحمس أن يرتكبها بحق الرياضيين السوفييت .

كما انتشرت ظاهرة تبادل التهم بالغش بين الأمريكيين والسوفييت، وإزاء ظاهرة تفوق اللاعبين من الدول الاشتراكية اتهم الغربيون الأنظمة الشيوعية بالتعامل غير الإنساني مع الأبطال الرياضيين بغية تحفيزهم على الفوز في المسابقات، ووصف الأمريكيون الاتحاد السوفييتي بأنه مصنع للأبطال الرياضيين .

وفي جميع الأحوال أسهمت الحرب الباردة في ازدهار الرياضة على المستوى العالمي وصارت الألعاب الأولمبية مناسبة لحشد كوني على خلفية رهانات سياسية واقتصادية وإيديولوجية واستراتيجية أبعد من الرياضة والرياضيين .

بعد انتهاء الحرب الباردة تغيرت بعض هذه الرهانات لاسيما السياسية والاستراتيجية والإيديولوجية منها . في العام 1992 في برشلونة منعت يوغسلافيا من المشاركة في حين اشتركت فيها كل من دول البلطيق بشكل مستقل خارج الاتحاد السوفييتي الذي كان قد اختفى قبل أشهر قليلة في وقت انضمت بقاياه إلى الألعاب تحت لواء فريق مندمج واحد هو فريق مجموعة الدول المستقلة . هذه الألعاب هي الأولى التي لم تتعرض للمقاطعة منذ ألعاب ميونيخ العام 1972 التي تشترك فيها ألمانيا واحدة موحدة . وهدفت اللجنة الدولية المنظمة الى حشد العدد الأكبر الممكن من الدول في تعبير عن السلام والنظام الدولي الجديد .

ألعاب أطلنطا العام 1996 رافقها جدال محتدم حول قضايا تقنية ولوجستية خاصة بتنقل اللاعبين . رغم ذلك نجحت اللجنة الأولمبية الدولية في حشد 197 أمة أي بإضافة 28 دولة جديدة عن الدورة الأولمبية السابقة . وقد تعرضت هذه الدورة لعمل إرهابي كبير إذ انفجرت قنبلة موقوتة في بارك الألفية في قلب القرية الأولمبية قتلت شخصين وجرحت 221 تبنتها في ما بعد منظمة متطرفة تعترض على النظام الفدرالي .

في سيدني في أستراليا العام 2000 دارت الألعاب الأولمبية من دون حوادث تذكر، اللهم سوى قضية تناول المنشطات (مثلاً بطلة العدو الأمريكية ماريون جونز) والمصالحة التي تمت علناً بين السكان الأصليين والمهاجرين ذوي الأصول الأوروبية تحت أنوار الشعلة الأولمبية التي أشعلتها كاتي فريمان المنحدرة من أصول أسترالية قديمة . بذلك تكون اللجنة الأولمبية الدولية قد حققت أحد أهدافها وهو التقريب عبر الرياضة ما بين الشعوب المختلفة .

الألعاب الأولمبية في أثينا العام 2004 شهدت الاستنفار الأكبر في التاريخ من الناحية الأمنية حرصاً على حياة اللاعبين والمشاهدين . فقد جرت هذه الألعاب في ظرف جيوبوليتيكي خاص بعد تفجيرات 11 سبتمبر/ايلول 2001 وما تلاها من مخاوف دولية جراء تعاظم ظاهرة الإرهاب، من دون أن ننسى الغزو الأمريكي للعراق وما رافقه من توترات دولية ومخاوف من ردود فعل إرهابية تطاول العواصم الأوروبية، كما حصل تحديداً في مدريد في 11 مارس/آذار من العام نفسه .

في 13 يوليو/تموز 2001 وقع اختيار اللجنة الأولمبية الدولية على بكين من أجل تنظيم ألعاب العام 2008 . قامت الدنيا وقتها ولم تقعد . وصفت الصين بالسجن الكبير وانتقدت لغياب الحريات فيها، وشك كثيرون في قدرتها على تنظيم مثل هذه الألعاب، وهددت دول كثيرة بالمقاطعة، رغم أن الصين وعدت بتنفيذ عدد من الاجراءات، بناء على طلب اللجنة الأولمبية، في مجال الحريات العامة . وحتى بداية العام 2008 كانت الشكوك تحيط بمصير هذه الدورة الأولمبية . لكن في المحصلة تمكنت بكين من المفاخرة بقدرتها على تنظيم إحدى أجمل وأروع الدورات الأولمبية التي كرست الصين قوة عظمى من الناحية التنظيمية والاقتصادية على الأقل في نظام دولي بات لها مكان في قمرة قيادته .

وتجري الألعاب الحالية في لندن من دون مشاكل واضطرابات تذكر سوى أن منطقة الشرق الأوسط تغلي على صفيح ساخن، وقد بدأت مسيرة انتقالها من الجور إلى الحرية . ولا يزال الوقت باكراً للحكم على انعكاسات التحول الديمقراطي على الرياضيين والرياضة في بلدان عربية انعتقت لتوها من الاستبداد .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"