الأنصاري والتجربتان البريطانية والفرنسية في الإصلاح

05:22 صباحا
قراءة 5 دقائق

نحتاج هذه الأيام، أكثر من أي وقت مضى، للحوار الحقيقي بين أبناء الأمة العربية، ولفتح قنواته، ولتدريب عقولنا على التحليل والحدس والتوقع والاستشراف .

إن أسئلة التحولات والتغييرات الجارية في الوطن العربي، تغطي الآن كل المنابر في العالم، وبالتالي فإننا مطالبون بمساءلة واقعنا، من منطلق الإيثار الوطني والضمير الأخلاقي، وبهدف تحويل العقبات إلى روافع للنهوض، وتخطي الشروط التي تحاصر هذا الحراك المجتمعي، ودفعه باتجاه الصالح العام والمستقبل .

* إن مهمة المفكر والمثقف في هذه الأيام، تعميق ثقافة تغذي الجدلية والحوار، وتحرض الوعي على استدعاء كل احتياطاته في مواجهة قوى عمياء، لا ترى المستقبل إلا مجرد امتداد كمي محسن للراهن .

* اللحظة هي شبابية بامتياز، وهي التي أحضرت الناس إلى السياسة، وإلى المشاركة في رغيف الضرورة ووردة الحرية وهواء العدالة والمساواة . هي لحظة الرهان الحي على ما تبقى من حيوية في جسم هذه الأمة، وما لم يفسد من ملحها، نعم . . نحتاج بشدة إلى تأهيل ذهني ومجتمعي يحرض على ثقافة السؤال والتأمل ويفتح الأبواب لحوارات وطنية فعالة ومستدامة ومؤسسية، تفكك الظواهر، وتقدم البدائل، وتبتعد عن الاجابات المعلبة العقيمة .

***

وفي الوقت نفسه، نحتاج هذه الأيام أيضاً إلى حوار جاد وهادئ مع أصدقاء في عالمنا العربي، نحترمهم ونجلهم كأعلام كبار في شؤون الفكر والسياسة والثقافة .

نحتاج إلى محاورتهم، في مقولاتهم الجديدة بشأن ما يجري من تحولات جذرية في الوطن العربي .

ومن هؤلاء الاصدقاء، المفكر الدكتور محمد جابر الأنصاري، الذي كتب مقالاً الأسبوع الماضي بعنوان وقفة مراجعة لما يجري حولنا وأبدى فيه تخوفه من دكتاتورية الثائرين من الشباب، واعتبر أن الموجة الثورية الراهنة هي عصبيات ستحل محل عصبيات، ورأى أن الانسياق وراء هذه الموجة كمن يفقأ عينه بأصبعه .

وللأمانة، فإن الأنصاري، بدا في مطلع مقاله، مقتنعاً بوجود أنظمة عربية مهترئة، ولم يبد اعتراضه على ثورة الشباب فيها، ورأى انها حالات مبررة للثورة عليها . لكنه لم يذكر هذه الحالات، وترك الأمر ملتبساً، وبدا متشائماً وعند حدود إصلاحات متواضعة ومتأخرة .

وما بين الالتباس، ودكتاتورية الشباب الثائر، تعرض الأنصاري للدور الخارجي المحرك لبعض هذه الانتفاضات، وانتهى إلى القول بأن الحل الأنجع هو التطور التدريجي . وضرب مثلاً على ذلك بالتجربة البريطانية، والتي استدعاها من خلال ميثاق الماغنا كارتا Magna Carta، التي صدرت في عام 1215م .

وقال: استطاعت الملكية أن تأخذ بيد مجتمعها، خطوة خطوة، ومرحلة مرحلة، إلى أن ذابت عصبياته الدينية وتكويناته الاقطاعية، وأصبح مجتمعاً برلمانياً .

واعتبر أن الثورة الفرنسية، كانت مريرة، وأن الفرنسيين عادوا إلى التطور التدريجي، ولم يوضح للقارئ، معنى وظروف وشروط وأكلاف هذا النوع من التطور التدريجي الذي جرى قبل قرون .

وهنا أختلف مع الصديق الأنصاري، في عرضه أو فهمه للتجربتين البريطانية والفرنسية في التحول الديمقراطي والاصلاح الشامل .

* في التجربة البريطانية، شهدت بريطانيا وما حولها، حروباً أهلية دامية طويلة على مدى قرون عدة، ولم تتمكن وثيقة الماغنا كارتا من الحد من سلطات الملوك، ولم يبق منها اليوم في القانون البريطاني الاساسي سوى ثلاثة بنود، على رأسها حرية الكنيسة البريطانية .

* كانت الوثيقة معنية ببارونات الإقطاع والنبلاء والأساقفة، وقد عرضها بارونات الإقطاع، لتقليص قوة الملك جون، ولحماية امتيازاتهم قانونياً، لكنها لم تمنع اشتعال الحروب الأهلية، وإعدام الملوك طوال العصور الوسطى، وكانت في مغزاها الاساسي تقول: أيها الملك، إنك لا تستطيع أن تنتهك حقوق البارونات، ولا تستطيع أن تفرض ضرائب عالية عليهم .

كان الصراع دموياً بين الملوك والاقطاع والكنيسة، ولم تكن هذه الوثيقة في انطلاقها، إلا أداة، حرّكت حروب البارونات، وفي ظلها تجددت الحروب الأهلية البريطانية في منتصف القرن السابع عشر، لأكثر من سبع سنوات، وأعدم الملك في نهايتها . وبعدها تجددت حروب بريطانيا في أوروبا وأمريكا الجديدة وإفريقيا، وضعفت هذه الوثيقة، مع صدور وثائق وقوانين أخرى في القرون التالية .

أما الثورة الفرنسية ،1789 فهي الأعظم أثراً وتأثيراً، وهي التي أبدعت فكرة الدولة كما نعرفها في هذا العصر، بعد أن كانت كلمة الدولة التي ابتكرها مكيافيلي في القرن السادس عشر، لا تطلق إلا على الحاكمين، وكان لويس الرابع عشر، والخامس عشر، يقولان: الدولة هي أنا، كان ذلك قبل القرن السابع عشر .

وقد ظلت أوروبا، طوال القرون الوسطى تحت سيطرة الكنيسة، باسم نظرية الحق الإلهي، حتى جاءت الثورة الفرنسية، وقدمت جمعيتها الوطنية إعلان حقوق الانسان والمواطنة والدستور، وبلور فلاسفة ومفكرون، ما يسمى بالعقد الاجتماعي، الذي بلور في نهاية الأمر مشروع الدولة، حيث تكون السيادة فيه للشعب، وتتولى هذه السيادة حكومة، ترسمها قواعد عامة .

وهكذا فإن الثورة الفرنسية، هي التي انشأت مفهوم الدولة في أغلب أقطار الدنيا، في ما بعد، وجردت المؤسسة الكنسية والارستقراطية المتسلطة من النفوذ والسيطرة .

لقد أثرت مبادئ هذه الثورة، في مجمل السياسات الأوروبية، وأدت إلى نشر الفكر القومي، وحق تقرير المصير لمختلف الشعوب، وأعطت دفعة قوية لحركات توحيد إيطاليا وألمانيا، وأدت إلى نشر الفكر الديمقراطي في أوروبا، وغيرت في الفكر السائد، وبخاصة تجاه حقوق الانسان والمواطنة، وأثرت أيضاً في التوازن الأوروبي، ووضعت الدول الأوروبية أسس هذا التوازن في مؤتمر فيينا 1815 .

صحيح أن مسار التحول الديمقراطي في الوطن العربي ما زال في بداياته، ومؤشرات القلق عديدة، لكن من الواضح الآن، أن هذه الثورات الشبابية أبدعت آليات فعالة للاحتجاج السلمي، وقبول التضحيات المترتبة عليها، وتبنت خطاباً منفتحاً يكرس أولويات الحرية والانتماء والعدالة والمساواة والتنمية الشاملة، خطاباً يقول إن الشعوب اكتشفت ذاتها، وأكدت حضورها بقوة على مسرح التاريخ، لتأخذ مصيرها بيدها، بعد أن أعطت نظمها فرصة عقود طويلة من الصبر والمعاناة، ولم تتلق سوى وعود وسراب، وافقار وتهميش، وهدر لثرواتها ومواردها، وحرمان من حقوقها وحرياتها الأساسية .

* إن معاندة التغيير والإصلاح، هي التي أدت إلى هذا المسار، الذي يتوجب إدراكه ومواكبته ورعايته، لأن المعاندة لن تؤدي إلا إلى المزيد من الشحن الداخلي، والتمزقات والمعاناة والتدخلات الخارجية .

* يقول دومينيك دوفيلبان، رئيس الحكومة الفرنسي الأسبق: لا يوجد استثناء يجعل العالم العربي غير قابل للتطابق مع الحرية والديمقراطية .

صحيح، أن مسار تعميق الحداثة والديمقراطية، هو مسار طويل وشاق، لكن، ألا يكفينا أننا ندخل هذا العصر، متأخرين، مقارنة بأغلبية شعوب الأرض؟ أليس دورنا كمثقفين، هو توجيه مخاض هذه الثورات الشبابية، إلى قطيعة عميقة مع بنى الاستبداد والعصبيات الطائفية والتخلف والفساد والظلم؟

* إن الثورات لا تحل الاشكاليات، لكنها تزيل العوائق أمام المعالجات الجذرية لهذه الاشكاليات، وصولاً إلى الانسان الجديد، المستقل الضمير والعقل والارادة، الانسان المبدع والمنتج والحر .

* إنه وعي جديد، أبطاله ليسوا زعماء سياسيين ولا ضباطاً ثوريين، ولا ايديولوجيين مغلقين، إنه وعي قوى كانت مهمشة، وليست قوى كانت ترتزق من الطغاة والفساد . فكيف إذاً يتكاسل المثقفون ورجال الفكر، عن مواكبة هذه التحولات؟ وعلى سبيل المثال فإن نظام القذافي طوال العقود الأربعة الماضية، مثل، في عيون وخطاب الكثيرين منا، وجهاً للهزل والسخرية فقط، وتكاسلنا جميعاً عن كشف عسفه وعوراته .

وأفسد المال الليبي الكثير من المثقفين والأدباء والأحزاب والعلماء، فأشاحوا النظر عن آلام الشعب الليبي ومعاناته، وأصموا آذانهم عن تفاهة هذا النظام ووحشيته، هكذا فعل الغرب أيضاً، ويأتي من يقول أخيراً . . الآن فهمناكم . . بعد خراب البصرة .

الإصلاح الحقيقي، هو الإصلاح الجذري الشامل، الذي يستجيب للقانون الطبيعي للتطور، والذي يأتي في الزمن الصحيح، وفي أوانه .

* إن الزعماء الذين خلدهم التاريخ، هم الذين فهموا حقيقته، وأدركوا نبض الناس، قبل فوات الأوان، وعالجوه، بأقل الأثمان والخسائر [email protected]
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"