الإمبراطورية في خطر

02:10 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبد الخالق
من الخطأ الفادح الاكتفاء برصد وتحليل الأسباب المباشرة للخلافات الثنائية كمحاولة لفهم طبيعة وأبعاد الأزمات والنزاعات المشتعلة بين الولايات المتحدة والعديد من القوى الدولية والإقليمية. ولا بد من التسلح برؤية أكثر شمولاً سياسياً وتاريخياً عند النظر في العلاقات المسكونة بالصراع والمنافسة بين واشنطن ودول مثل روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية أو حتى بلدان صغيرة كسوريا وكوبا وفنزويلا.
ورغم وجود أسباب محددة للخلافات في كل حالة من هذه الحالات، إلا أن هناك خيطاً واحداً يربط هذه النزاعات معاً، ويضمها في منظومة واحدة يتفاعل داخلها صراع إرادات ومصالح وتوجهات متصادمة بين الولايات المتحدة من جانب وكل دولة من هذه الدولة من جانب آخر.
وإذا تجاوزنا التفاصيل يمكننا بسهولة إدراك أن التوترات المزمنة بينها وبينهم تتجاوز بكثير الأسباب المباشرة للخلافات المعلنة: الصراع مع روسيا من الثوابت الأمريكية ويتجاوز الأزمة الحالية حول التدخل في الانتخابات الأمريكية. وبالمثل فإن التنمر للصين من الثوابت الأمريكية أيضاً وليس له علاقة بالخلافات التجارية. في نفس الإطار تتجاوز أسباب الخلافات مع إيران برنامجها النووي الذي تم التوصل لتسوية بشأنه ومع ذلك استمر الصراع معها. الأمر ذاته سيتكرر مع كوريا الشمالية بعد أن تهدأ الأزمة الحالية حول تجاربها الصاروخية.
كل تلك الدول تحاول في الحقيقة تحدي الهيمنة الأمريكية إقليمياً وعالمياً. وتسعى بدأب لخلق وتوسيع مناطق حيوية لنفوذها. أي أنها تتحدى النظام العالمي القائم منذ الحرب العالمية الثانية والذي تهيمن عليه الولايات المتحدة وحلفاؤها. ومن الطبيعي أن تعتبر واشنطن أن نجاح تلك الدولة سيكون على حساب المصالح الأمريكية، وهذا هو السبب الرئيسي والحقيقي للصراع معها.
يوماً بعد يوم يثبت التاريخ أنه لم يقل كلمته الأخيرة، ويثبت بالتالي خطأ مفكرين مثل فوكوياما دفعتهم نشوة الانتصار في الحرب الباردة لإطلاق تنبؤات متسرعة عن نهايته. وبعد نحو ربع قرن من زوال الخطر السوفييتي وانفراد أمريكا بالقيادة، يواجه النظام العالمي الذي أوجدته تحديات غير مسبوقة تعرضه لانهيار كامل. وهو خطر حقيقي اعترفت به دراسة مهمة لكلية الحرب الأمريكية بمشاركة وزارة الدفاع والجيش.
الدراسة التي نشرت قبل شهرين تقريباً تتصدى لمناقشة الأخطار والتهديدات التي تواجه الأمن القومي، وبالتالي تهدد الهيمنة الأمريكية على العالم. ودون محاولة لتجميل الواقع تعترف بأن العالم دخل مرحلة جديدة من التحولات الكبرى نتيجتها الأساسية تراجع القوة والنفوذ الأمريكيين بفعل ظهور ونمو منافسين جدد وأخطار غير تقليدية. أحد أهم تلك الأخطار المستحدثة هو الإعلام الجديد الذي استفاد من ثورة التكنولوجيا وساهم في تآكل الاحتكار الأمريكي للمعلومات ومن ثم السيطرة شبه المطلقة على الفضاء الإعلامي العالمي، وبالتالي التحكم في الرأي العام دولياً وداخلياً. يرتبط بنفس الثورة التكنولوجية خطر آخر داهم هو اختراق الشبكات الإلكترونية وتخريبها أو سرقة المعلومات السرية.
ويعتبر المشاركون في الدراسة أن الاضطرابات الجماهيرية الواسعة التي تقوض سلطة الدولة، والتي اجتاحت العالم منذ سنوات من أهم الأخطار التي تواجه النظام العالمي. كما أنها برهان عملي على فاعلية الإعلام الجديد. المثير هنا أنهم لا يستبعدون امتداد هذه الاضطرابات إلى مناطق واسعة في العالم بما فيها أوروبا والولايات المتحدة نفسها، ولعل ما شهدته ولاية فيرجينيا أخيراً يؤكد صدق هذا التوقع.
خلاصة ما تذهب إليه الدراسة التي استغرق إعدادها عاماً كاملاً هو أن النظام العالمي الذي صنعته أمريكا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ثم أعادت تثبيت دعائمه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي يتداعى سريعاً. وهي تنتهي بتوصيات مهمة لإنقاذ الإمبراطورية الأمريكية أو ما بقي من بهائها في مقدمتها دعم القدرات الاستخبارية، وتعزيز جهود تشكيل الرأي العام العالمي والمحلي، وضمان أقصى درجات المرونة للمؤسسة العسكرية للعمل الخارجي ليس فقط درءاً للمخاطر، ولكن أيضاً لحماية السلطات، والموارد، والمناطق الاستراتيجية، والتحكم في الرأي العام، وهذه كلها ستكون ساحات المعارك الأمريكية في العقود المقبلة.


[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"