الاقتصاد يفضح السياسة

00:43 صباحا
قراءة 3 دقائق

هل هي نهاية الرأسمالية، على غرار وفي مقابل نظرية نهاية التاريخ؟ هل هي أزمة النظام الرأسمالي، أم أزمة في النظام الرأسمالي؟

هذه الأسئلة، وعشرات غيرها تدافعت في صحف العالم، تحاول فهم وتفسير الانهيار الاقتصادي الهائل، الذي ضرب البورصات الأمريكية والاقتصاد الأمريكي، فأصبح حدثاً اقتصادياً له ما قبله وما بعده، تماماً كحدث تفجير برجي نيويورك في العام ،2001 الذي تحول إلى محطة أمنية فاصلة، يؤرخ بما قبلها وما بعدها.

السيناريو نفسه الذي حدث في مطلع عهد الرئيس بوش في العام ،2001 يتكرر في العام ،2008 في نهاية عهد الرئيس بوش:

الحدث أمريكي، والتفاعلات عالمية. أي أن أي زلزال سياسي أو عسكري أو اقتصادي يحدث في الدولة العظمى التي تحكم الكرة الأرضية، لا بد من أن يكون له توابع، تتراوح في قوتها وضعفها، في جميع أرجاء الكرة الأرضية.

لقد أصبح ذلك واضحاً جداً من حيث الشكل، أما من حيث المضمون، فإننا نرى أنفسنا نكرر الأسئلة المطروحة في الأسطر الأولى من هذا المقال، أو أي أسئلة على شاكلتها.

ولكن، هل يتحتم على المراقب أن يكون خبيراً اقتصادياً متخصصاً، حتى يستطيع الإجابة عن كل الأسئلة المطروحة، ويحاول فهم ما يجري حالياً، وما سيجري في المستقبل القريب من تفاعلات سياسية واقتصادية عالمية، لحدث وول ستريت الجلل؟

إن الخبرة الاقتصادية المتخصصة مطلوبة برأيي فقط في مجال توظيف الأموال واتخاذ القرار في هذا المشروع الاستثماري أو ذاك، لكن الاقتصاد العالمي أخطر من أن يديره الاقتصاديون فقط، كما أن الحرب (كما يقول كبار الخبراء الاستراتيجيين) أخطر من أن يديرها ويقرر مصيرها العسكريون فقط.

وكما تقف السياسة وراء الحرب ومخاطرها، فإن السياسة تقف أيضاً وراء الاقتصاد ومخاطره.

إن القاء نظرة على كارثة وول ستريت من هذه الزاوية الواسعة العريضة، سيلفت نظرنا، إلى أن الزلزال الاقتصادي الذي أصاب مركز المال الامبراطوري في وول ستريت، جاء يفضح ويكشف بقسوة ووضوح كل معايب سياسة النظرية الامبراطورية التي تعيش عليها الولايات المتحدة في الداخل، وتتعامل على أساسها مع الخارج، في العقدين الأخيرين من الزمن.

إن الفلسفة العليا لهذه السياسة تقول (خاصة لدى المحافظين الجدد الذين أحكموا الإمساك بمقاليد الحكم منذ مطلع القرن الجديد)، إن من بين الأقاليم الجغرافية التي تكوّن خريطة الكرة الأرضية، فإن إقليم الولايات المتحدة هو وحده جنة الله على أرضه، وإن الله قد خلق بقية أقاليم هذه الكرة الأرضية لخدمة رفاهية وأمان واستقرار ونمو المركز الامبراطوري الأمريكي الأعظم.

وبغير فهمنا لهذه الفلسفة العامة، فإننا لن نستطيع أن نفسر سياسة الولايات المتحدة، منذ عهدي ريغان وجورج بوش الأب حتى اليوم، من قضايا معالجة مشكلات الاحتباس الحراري، التي تهدد الكرة الأرضية كلها، والجنس البشري كله. لقد اختصر أحد الرؤساء الأمريكيين هذه السياسة (ولعله بوش الأب) بما معناه: لتذهب الكرة الأرضية إلى الجحيم، إذا كان البديل هو اتخاذ قرارات تعيق نمو الصناعات الأمريكية.

إن لب هذه الفلسفة هو عدم الإحساس والإدراك بأن مصير البشرية هو واحد، أمريكيين كنا أم عرباً أم أوروبيين أم صينيين.

فإذا نقلنا هذه الفلسفة إلى قطاع الاقتصاد، والنشاط الاقتصادي المتنوع بين الإنتاج والتسويق والاستثمار، فإن بوسعنا رأساً أن نفهم كيف تؤدي الغطرسة الإنسانية والسياسية إلى غطرسة اقتصادية، ينظر فيها الأمريكي العادي إلى الدولار كأنه العملة الأعظم والأخلد في قيمتها، مهما تراجع الاقتصاد الأمريكي الإنتاجي، ومهما سرّحت المصانع الأمريكية من عمالها، بسبب العجز عن تصريف إنتاجها، أمام الإنتاج الياباني أو الصيني.

إن قيمة الدولار الأمريكي في هذه الحالة، تصبح قيمة معنوية مستمدة من قوة الغطرسة الامبراطورية الأمريكية، لا قوة مادية مستمدة من القوة الفعلية للإنتاج الأمريكي الفعلي، والرواج التجاري الحر لهذا الإنتاج.

سيمر وقت غير قليل، قبل وصول الأزمة الراهنة إلى خواتيمها، لكن هذا الوقت لن يزيد إلا في كشف أنه مهما عانت البشرية من توابع الزلزال الاقتصادي الأمريكي، فإن الجميع سيكتشف في النهاية، إن من عليه أن يدفع الثمن الكامل لهذه الأزمة، هو سياسة الغطرسة الامبراطورية الأمريكية فتعود الولايات المتحدة بلداً مستقراً مزدهراً، لكن ليس على حساب بقية البشر، بل في منظومة دولية متوازنة، يأخذ منها كل بقدر ما يعطيها، لا أكثر ولا أقل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"