الانشقاق

على الوتر
02:46 صباحا
قراءة 4 دقائق

يبدو أننا نعيش في عالم جديد، خرجت فيه الصورة عن السيطرة، وبعد أن فرضت التكنولوجيا إرادتها على حياة الناس، فرضتها أيضاً على بعض أصحاب القرار في عالم البث التلفزيوني، وتكاد تتبدل ملامح بعض الشاشات بعد أن سارع القائمون عليها إلى تحقيق السبق في تحرير الصورة، وتمهيد الطريق أمامها لتتجاوز سلطة العلم والدين والمبادئ والعادات والتقاليد، وتتحدى إرادة المجموع، وتبث إليه ما لم يكن مسموحاً بالأمس، حتى تغير عقله رويداً رويداً ليسلم مستقبلاً بما لم يكن يقبله في الماضي .

هذا العام تحدت مجموعة إم بي سي وتلفزيون قطر قرار الأزهر بمنع تجسيد الرسل والأنبياء والصحابة وأهل البيت على الشاشة، وقدمت مسلسل عمر، في تجربة ليست الأولى حيث سبقها العام الماضي تقديم مسلسل الحسن والحسين الذي قاطعه الناس سواء بسبب ضعف مستواه الفني، أو التزاماً بقرار الأزهر، ولكن الموقف من عمر مختلف، حيث إنه أحدث انشقاقاً في صفوف المشاهدين، فمنهم من يقاطعه ويرفض مشاهدة ولو مشهداً واحداً منه من باب الفضول، ومنهم من يتابعه بل ويدعو إليه، والاختلاف بين هؤلاء وأولئك ليس مهنياً ولا تقنياً، ولكنه في المقام الأول التزام، ولا التزام بقرار اتخذه علماء أجلاء في الأزهر، وأيده مفتي السعودية وعلماء أجلاء من دول عربية مختلفة . وفي المقابل فقد استند المسلسل أيضاً إلى موافقة علماء أجلاء آخرين من دول مختلفة، وأسماؤهم تتصدر المقدمة في كل حلقة .

القنوات الفضائية العربية التزمت بقرار مقاطعة المسلسل، ورفضت شراء حقوق عرضه، ولم تعرضه سوى القنوات المنتجة له، والتي اتخذت قراراً مع سبق الإصرار بتقديم عمل درامي عن الفاروق عمر بن الخطاب، ومنذ أعلنت عنه قبل ما يقرب من عامين وأثير حوله الكثير من الجدل، ولكنه جدل لم يقدم ولم يؤخر من الأمر شيئاً، وواصلت إم بي سي وتلفزيون قطر السير في طريقهما وحشدا له أضخم ميزانية يعرفها إنتاج عمل درامي عربي، وتم إعداد ديكورات تمثل مكة والمدينة وقرى ومدناً عربية أخرى شهدت أحداثاً ومعارك عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيما هو معروف تاريخياً بحروب الردة، كما تم استقطاب فنانين معروفين وغير معروفين من معظم الدول العربية للمشاركة فيه، فضلاً عن 30 ألف كومبارس، إضافة إلى الملابس والإكسسوارات المناسبة لمراحل تاريخية مختلفة وأقوام متفرقين، ابتداء من ظهور الإسلام والموقف منه في مكة، والهجرة إلى الحبشة، والهجرة إلى المدينة، وغزوات بدر وأحد والخندق، وصلح الحديبية، وفتح مكة، وحجة الوداع، ووفاة الرسول الكريم، وخلافة أبي بكر الصديق وحروب الردة، وانتهاء بخلافة عمر وانتشار الإسلام، وكل هذه المعارك تم تنفيذها بشكل جيد وحرفي وجاذب .

بعض من يتابعون المسلسل يأخذون عليه عدم مراعاة الصفات الشكلية الواردة في أمهات الكتب عن الشخصيات خلال اختيار من يؤدون دورهم، وأول هؤلاء عمر بن الخطاب وأبوبكر الصديق، وهو ما يؤكد أن الهدف الأكبر كان تقديمَ المسلسل بما هو متاح، وتحطيم الحاجز وتجاوز قرار العلماء، بصرف النظر عن دقة أو عدم دقة اختيار الممثلين .

أيضاً يأخذون على المسلسل الأداء البارد لمن يؤدي شخصية عمر، ليطل على الناس في صورة مختلفة وجوهر يتناقض مع الفاروق، وبالتالي يتحقق ما يخشاه العلماء وما يحذرون منه من أن تنطبع صورة لرمز العدل في التاريخ الإسلامي مختلفة تماماً عن الصورة الحقيقية وتنال منها عند جموع الناس .

ومن مآخذ المتابعين أن المسلسل يحمل اسم عمر وهو ليس عنه، بل عمر واحد من الشخصيات الكثيرة والمتعددة فيه، ولا تمييز له لا في المساحة ولا في التأثير، وبشكل عام يتناول المسلسل قصة الإسلام منذ نزول الوحي حتى خلافة عمر .

وقد أثارت الحلقتان العشرون والحادية والعشرون غضب متابعين لما فيهما من عنف وكمية غير محدودة من الدماء، وذلك خلال معركة خالد بن الوليد ضد مسيلمة الكذاب، في صور أزعجت الناس، وكان يمكن التعبير عنها بمشاهد عامة من دون تركيز على التفاصيل مثلما حدث في معارك سابقة .

المؤيدون للمسلسل يرون أنه يظهر للعالم جوهر الدين الحنيف، ويرد على محاولات أعدائه النيل منه، وأيضاً على الصورة التي تروجها بعض العناصر المتطرفة . ويستدلون على ذلك بما تردد عن عرضه على قنوات غير عربية في ذات الوقت، ويأملون بعرضه في الشرق والغرب، معتبرين أنه استكمال للمنهج الذي اتبعه مخرج فيلم الرسالة مصطفى العقاد، والذي قدم عملاً أبهر غير المسلمين وصحح صورة مغلوطة عن الإسلام .

اقترب شهر رمضان من نهايته، ولايزال المسلسل يعرض، وسوف يستمر حتى آخر حلقاته، من دون تدخل من أي من أصحاب القرار لوقفه، ويبدو أن صناعه والقائمين عليه وداعميه أرادوا به ليس تحدي إرادة الأزهر والعلماء وتحطيم الحاجز من خلال شخصية عمر فحسب، ولكن من خلال ظهور جميع الصحابة دفعة واحدة، أملاً في صورة تلفزيونية مغايرة في الغد لا تعرف خطوطاً حمراً . وفي النهاية لن يستطيع أحد أن يصادر على خيال الناس، ولن يصادر أحد على الصورة التي يرسمها كل منا للرسل والأنبياء والصحابة وآل البيت . وسيظل من حقنا أن نتخيل ونرسم صوراً في قلوبنا وعقولنا بصرف النظر عن الصور التي يقدمونها درامياً .

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"