الترامبية.. انبعاث جديد لأمريكا العظمى

02:31 صباحا
قراءة 4 دقائق
حسن العديني
لم ينتظر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حتى يدخل البيت الأبيض ويوقع مرسوماً بإلغاء قانون أوباما كير للتأمين الصحي، بل سارع إلى وضع إمضائه عليه وعلى مجموعة قرارات بتعيينات في إداراته بعد أدائه اليمين الدستورية في مبنى الكابيتول وقبل أن تنتهي مراسم تنصيبه.
بداية لا تنم هذه الخطوة عن ميل إلى الارتجال أو الاندفاع بقدر ما هي رسالة تحت الأضواء وعلى مرأى من الدنيا كلها بأنه مصمم على الوفاء بوعوده الانتخابية حتى وإن مست الشرائح الأولى بالرعاية. وكان في خطاب التنصيب قد أكد التزامه بالبنود المثيرة للجدل في برنامجه الانتخابي. وبعد أن تسلم مفاتيح البيت الأبيض أخذ يخطب بسرعة في طريق تأكيد صفة الصدق فيه وأن ترامب الرئيس هو نفسه ترامب المرشح، فبعد أربعة أيام أصدر مرسوماً ببناء الجدار الفاصل مع المكسيك مشدداً على أن الجار الجنوبي سيسدد تكلفته كاملة ثم شرع في طرد المهاجرين غير الشرعيين متوعداً المدن التي أعلن حكامها بأنها ستكون ملاذات لهم بالحرمان من المخصصات المالية الفيدرالية.
على أن القضية التي ستولد خلافات مع حلفاء الولايات المتحدة هي السياسة الحمائية، وهو يريدها لخلق المزيد من الوظائف للأمريكيين، وهي على أي حال تتنافى مع العولمة وحرية التجارة وكسر الحواجز، واللافت أنها في مظهرها تعكس نزعة اشتراكية غريبة على رجل قادم من الشريحة العليا في الطبقة الرأسمالية بالدولة التي تحتكر القمة في الاقتصاد العالمي، وإن كانت هذه سياسة الجمهوريين على مدى تاريخهم باعتبار تمثيلهم لأصحاب الصناعات. وقد بدأ بالفعل وانسحب من اتفاقية التجارة الحرة عبر المحيط الهادي مع أنه بهذا سيغلق السوق الأمريكية أمام منتجات شركات هي أمريكية في الواقع هاجرت برؤوس أموالها إلى جنوب شرق آسيا وإلى المكسيك ودول لاتينية أخرى للاستفادة من رخص الأيدي العاملة.
إن ترامب في سعيه إلى إعادة الوظائف للأمريكيين يضر بمصالح الطبقة الرأسمالية التي صدرتها إلى الخارج من أجل تعظيم الأرباح، وفي الظاهر تبدو رؤيته مخالفه لتوجهه كرجل أعمال يبحث عن أقصى عائد من الصفقات التي يبرمها لكنه هنا يتصرف كسياسي يبحث عن مصالح الأمريكيين تطبيقاً لشعارات رفعها بأن «أمريكا أولاً» أو «أمريكا عظيمة». وكما مزق وثيقة انضمام الولايات المتحدة إلى اتفاقيات التجارة الحرة عبر المحيط الهادي يسعى إلى إعادة التفاوض في شأن اتفاقيات «نافتا» التي تضم دول أمريكا الشمالية الثلاث (الولايات المتحدة وكندا والمكسيك)، وذلك يثير مخاوف المكسيك باعتبارها الدولة الأضعف والتي لخص أحد رؤسائها في القرن الماضي مشكلتها بأنها بعيدة عن الله وقريبة من الولايات المتحدة. إن هذه المشكلة تتفاقم الآن في عهد رئيس يدخل البيت الأبيض بموقف من الملونين جعله يستعجل إلغاء الإسبانية من الموقع الإلكتروني للبيت الأبيض ومن حساب المكتب البيضاوي في تويتر. وقد يكون مرد تعالي هذا القادم من أصول ألمانية على ذوي السحنات الملونة أن الدم الآري يجري في عروقه. لكن مقابل هذه النزعة العنصرية تتجلى صفات إنسانية جديرة بالتأمل بل والاحترام، ومنها أنه يتصف بقوة العزيمة والإرادة. فخلال حملته الانتخابية أظهر عناداً وتأكيداً على الثقة بالفوز، ولعله أول مرشح في تاريخ الانتخابات الأمريكية يرفض إجابة الصحفيين عما إذا كان سيقبل النتيجة حال فشله. على العكس ظل يردد ثقته بأنه الرئيس المقبل وأن أي نتيجة أخرى ليس لها من دلالة سوى التلاعب والتزوير. والآن ورغم وصولة إلى كرسي الرئاسة وقع مرسوماً يفتح تحقيقاً فيما يقول إنه تزوير أعطى منافسته أصواتاً غير صحيحة. إن هذه الثقة تسكنه وتملأ يقينه بقدرته على بناء أمريكا عظيمة.
بعيداً عن هذا أو قريباً منه سنرى أن ترامب يحمل رؤى مختلفة عن الساسة التقليديين في بلاده سواء بالنسبة للشؤون الداخلية أو الخارجية، وإذا كان في الداخل سيعمل على تقوية الاقتصاد الأمريكي فإنه في الخارج لا يرغب في خوض حروب دنكشوتية، وذلك واضح من رؤيته للعلاقة مع روسيا وسعيه إلى التهدئة معها، إذ إنها لم تعد عدواً أيديولوجياً يقود معسكراً ذا توجهات اجتماعية تهدد بضرب المعسكر الرأسمالي وإنما هي دولة كبيرة تحمي حدودها ومجالها ولهذا فإن الحرب معها عبث لا مبرر له. لذا فثمة جنوح إلى الظن بأنه سيعمل على تفاهمات مع موسكو من هذه الرؤية بالذات وليس من زاوية أن له استثمارات في روسيا.
على الناحية الأخرى فهو يبدي تصلباً مع بكين من منظور أنها المنافس الاقتصادي القوي بما يؤذن بحرب تجارية مع الغازي الأكبر للأسواق الأمريكية والمنافس في الأسواق الخارجية. ولسوف يقتصر الصدام على هذا الأمر وحده دون أن يلزم ترامب نفسه بالانخراط في صراع من أجل بحر الصين الجنوبي أو يتابع إشارته إلى عدم الالتزام بصين واحدة. وقد يكون أهم ما في ذهن ترامب القادم من خارج الطبقة السياسية إدراكه خطر إيران في منطقة تمثل أهمية للمصالح الأمريكية وللعالم الغربي ووعيه بأنها تهدد استقرار بلدان صديقة وحليفة. وقد يرى البعض أن علاقة موزونة بروسيا لا تستقيم مع خصام مع إيران، لكنه أمر تفرضه أولويات تجيز لموسكو التهدئة مع واشنطن ولو أغضبت طهران الصديق المراوغ والحليف غير المأمون.
الشيء الوحيد الذي لن يقدم عليه ترامب هو فك الارتباط بحلف الناتو، وسوف يتجاوز تصريحاته بشأنه لكنه سيبني علاقة خاصة مع بريطانيا نائياً قليلاً عن أوروبا الموحدة. وفي المحصلة فإن هذا الرئيس القوي لن يضعف الولايات المتحدة ويخلي موقعها للصين أو لغيرها كما يتخيل البعض. ولربما يكرس طريقاً جديداً لانبعاث أمريكا عظيمة يشتق اسمه من هذا المغامر الكبير، وتكون الترامبية عنواناً لمدرسة سياسية تنتسب لرجل لا علاقة له بالفكر والثقافة بقدر ما يمتلك من الجسارة والخيال.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"