التسامح شيء . . . “والمسامح كريم” شيء آخر

05:23 صباحا
قراءة 6 دقائق
د . يوسف الحسن
عدت من ماليزيا قبل أسابيع، بعد مشاركة في مؤتمر دولي، حول "التسامح والوئام"، في المجتمعات التي تتسم بالتنوع والتعدد . بدت لي ماليزيا، كفيدرالية من الجماعات العرقية والدينية، وكتجربة ناجحة في التسامح والتناغم والتنمية، يشترك في تحقيقها المسلم والبوذي والهندوسي والمسيحي . . الخ، من خلال منظومة "قيم آسيوية" ترعى وتعزز النظام والانضباط، وامتلاك الأقليات فيها، شعوراً قوياً بالانتماء والأمان والهوية القومية المشتركة .
استعرض إماراتيون وممثلو كنائس ومعابد في الإمارات، أنموذج الإمارات في العيش المشترك والتسامح بين أتباع الديانات والثقافات المختلفة، وفي مواجهة الغلو في الفكر، والفعل الإرهابي، وفي تقديم خطاب ديني معتدل، يقرّ بالاختلاف بين الناس، ويؤمن بأن اختلاف ألسنتنا وألواننا، هو آية للعالمين، وسنة من سنن الله في الكون، و"لو شاء ربك، لآمن من في الأرض كلهم جميعاً" .
ويُسجل لوزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع، ولوزيرها الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، هذه المبادرة، المستدامة والحميدة، والمتنقلة من أستراليا إلى ماليزيا، ومن ثم إلى تركيا في نهاية العام الجاري . بتقديم أنموذج الإمارات إلى العالم الخارجي، كدولة عربية ومسلمة، لا مكان للتطرف والغلو والعنف فيها، وإنما نموذج للاعتدال والتسامح والعيش المشترك، وترسيخ قيم التعارف والاحترام المتبادل .
تحدثت في خطاب لي أمام المؤتمر، عن ثقافة التسامح، وأبعادها الفكرية والدينية والإنسانية، وأصّلت مفهوم التسامح في الأديان، وفي أشكاله المعاصرة والتاريخية، وكيف يقع معناه في تعدد الهويات في إطار إنسانيتنا المشتركة، وفي فلسفة حقوق الإنسان، والاعتراف بحق الاختلاف بين الناس، حيث يولدون أحراراً متساوين في كرامتهم وحقوقهم .
قبل إلقاء الخطاب، نبهني أكاديمي هندي مسلم، بأن مصطلح Tolerance أي "التسامح"، غير مرغوب فيه لدى الجهات الماليزية المنظمة لهذا المؤتمر، أو قل إن المصطلح ذو فهم ملتبس لدى كثيرين، من أجل ذلك نصحني باستخدام مصطلح الوئام والتناغم Harmony .
وتذكرت، أن في بلادنا العربية أيضاً، من مازال يفسر مصطلح "التسامح"، بشكل خاطئ . ويرى فيه إهانة وتمييزاً أو فوقية على الآخر . وأذكر إنني، اعترضت على قول أحد القساوسة، حينما ذكر أن الإمارات "تسامحت" مع المسيحيين، حينما "سمحت" لهم ببناء كنائس لهم . وتدخلت قائلاً، ليس هذا هو المعنى المقصود بالتسامح . إنما هو اعتراف دستوري بحق الأجانب، بالتمتع بالحقوق والحريات المقررة في المواثيق الدولية المرعية (مادة 40) ومن بينها "حرية القيام بشعائر الدين"، باعتبار أن الحريات الدينية، هي حقوق إنسانية، تقررها الشرائع الدينية نفسها .
تحدثت مطولاً، عن المخاض الصعب والبطيء، لمفهوم التسامح، وكيف احتاجت أوروبا لأكثر من ثلاثة قرون، لبلوغ مرحلة التسامح المعاصرة، وتجاوز مفاهيم الفوقية والإهانة والإقصاء للآخر المغاير، والوصول إلى معنى الفعل المتساوي والمتبادل بين متساوين، وفيه معنى المواطنة، أي المساواة بين المواطنين، بصرف النظر عن فروق المذهب والثقافة والعرق واللون . . الخ .
وذكرت أن "أفلاطون وتوما الأكويني، لم يكونا أقل تعصباً وفاشية من كونفوشيوس" . وفي غياب مفهوم التسامح، يحضر التمييز والتعصب والكراهية، وحينما كانت روما، في منتصف القرن السادس عشر، تحرق البشر على الوتد، بتهمة الهرطقة الدينية، كان الإمبراطور المغولي المسلم جلال الدين أكبر، يدعو إلى التسامح وحرية العقيدة، ويلغي الجزية عن غير المسلمين، ويضع قانوناً لحقوق الأقليات .
اعترضت البروفيسورة الماليزية، رئيسة الجامعة الإسلامية العالمية، على مفهوم التسامح، وتساءلت قائلة: "كيف يمكن تطبيق هذا المفهوم، على جار لي ماليزي صيني، لديه كلب ينبح في معظم ساعات الليل والنهار"؟
من المؤكد أن تجربة السيدة مع كلب جارها الماليزي الصيني، لا علاقة لها بمفهوم التسامح، وإنما تدخل في إطار القوانين المعمول بها في بلدها، في نهاية المطاف، وإن احترام أسلوب حياة الآخر، بما لا يخل بالنظام العام، أو ينافي الآداب العامة، هو جزء من مفهوم واسع للتسامح .
لقد قتلت الكراهية الشديدة للآخر، أكثر من مليون إنسان خلال أيام قليلة في عام 1994 في معارك بين الهوتو والتوتسي في رواندا .
اليوم، نحن والعالم، نبحث عن "المسلم المعتدل"، لكننا نخلط ما بين الاعتدال في المعتقد السياسي، والاعتدال في العقيدة الدينية، ونسأل أيضاً: لماذا لم يلتحق أي هندي مسلم، "بالقاعدة" أو "داعش" وأمثالهما، رغم أن الهند تضم أكثر من مئة وخمسين مليون مسلم؟ هل هي التعددية الثقافية، كقيمة ملهمة في المجتمع الهندي؟ والتي ارتبط بها، نمط الحياة المتنوع إثنياً ودينياً، بما فيه عادات الأكل والموسيقى والفنون وطرز الحياة؟
هل هي مسألة مرتبطة بخلفيتنا الثقافية، والتي لها تأثير كبير في سلوكياتنا وتفكيرنا، ونوع الحياة التي نعيشها، وبإحساسنا بالهوية الجامعة، وإدراكنا للانتماء إلى جماعات نرى أنفسنا أعضاء فيها؟
لا معنى - في مفهوم التسامح المعاصر - لمقولة "المسامح كريم"، وهي مقولة، فيها فوقية، وتعتمد على وجود أكثرية قادرة، وأقلية غير قادرة، وعلى شخص قادر على المغفرة، وآخر أخطأ بحق الأول، ويطلب الصفح .
التسامح هنا، والذي نفهمه ونعنيه، هو مفهوم قانوني، وليس مجرد واجب أخلاقي أو حتى سياسي، وهو فلسفة حقوقية تعني مساواة بين طرفين، واعترافاً بالآخر المغاير .
وقد سألني أحد المشاركين في المؤتمر: "هل يمكن أن تتعامل مع شخص غير متسامح، بالتسامح؟، قلت له نعم، لكن في إطار القانون، وبما يكفله القانون، وذكرت له، أن جمال الدين الأفغاني، المصلح الكبير، كان متخوفاً من مفهوم التسامح، فنادى بفكرة التعصب .
ولنتذكر "حلف الفضول" في مكة، قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي شهده مع أعمامه، وكان حلفاً ضد الظلم والتمييز، ويحافظ على حياة الناس وكرامتهم، ويدعو إلى المساواة بين أهل مكة ومن دخلها من سائر الناس .
كما نستحضر "دستور المدينة" الذي صدر في العام الأول للهجرة النبوية، والذي خاطب مجتمعاً تعددياً، فضلاً عن تراث إسلامي أقر بفكرة الخطأ والصواب، ونسبية المعرفة، وبفكرة عدم العصمة من الخطأ، والإقرار بالاختلاف بين الناس، واحترام التنوع الثقافي والديني وقبوله ولا يتم ذلك، من غير معرفة بالآخر، والانفتاح عليه، والتعايش معه، وضمان العدل وعدم التمييز، واعتبار أن البشر، متساوون في الكرامة والحقوق .
لقد حارب صلاح الدين الأيوبي ببسالة أثناء حروب الفرنجة، وفي الوقت نفسه، اتخذ الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون، طبيباً له، وحظي بمكانة محترمة في بلاطه الملكي في مصر . وهو الفيلسوف اليهودي الذي هرب من الظلم الأوروبي .
قبل تقسيم القارة الهندية، كانت هوية الناس في عموم الهند، هي الهوية الهندية، لكنها فجأة تنّحت هذه الهوية الجامعة، لتأخذ مكانها هويات متعصبة، هندوسية وإسلامية وسيخ، فأصبح الناس مختلفين ومتقاتلين .
نشبت الحرب أولاً في عقول الناس، وبعدها انفرطت الهند الكبرى، ونشبت مذابح هائلة بين كل الأطراف، وفي أوائل السبعينات من القرن الماضي، نشبت حرب كارثية أخرى، لكنها في هذه المرة كانت بين المسلمين أنفسهم، وانفصل شرقي الباكستان، ليشكل مسلموه دولة بنغلاديش . وفي هذه المرة كان التقسيم على أساس اللغة والسياسة والثقافة، وليس بين مختلفين دينياً أو مذهبياً .
يتعزز مفهوم التسامح، بالتواصل الإيجابي، والمعرفة، وبحرية الضمير والمعتقد، وبتعليم الناس الحقوق والحريات التي يتشاركون فيها، وتعزيز عزمهم على حماية هذه الحقوق . والإقرار بأن البشر مختلفون بطبعهم وقيمهم وثقافاتهم ومعتقداتهم، وإن لهم الحق في العيش بسلام .
إن ثقافة التسامح، تعطي المرء القدرة على احتمال وقوع الخطأ، وعلى الإصغاء إلى الرأي الآخر، وتمثل ما قاله الإمام الشافعي: "رأيي صواب، يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب" .
واعترف . . . بأنه مازال هناك خلط وتشويش، وإدراك ضبابي لمفهوم التسامح في أذهان الكثير من الناس إن على مستوى النخب، أو العامة . ولعل ذلك، يفسر جزءاً من الإشكالية والاضطراب، أو الأزمة التي تعيشها مجتمعاتنا العربية في الوقت الراهن، لقد غاب التسامح والحوار واحترام الاختلاف، على مدى العقود الماضية، وحضر التعصب والتهميش والإقصاء والانغلاق والتكفير والغلاة والطغاة والبغاة، والسؤال هنا، كيف نبدأ، وما هو الحل؟
لنبدأ مثلاً، بالتعليم، ولنعلم الأجيال القادمة، الدرس الأول في التسامح، ولكن ليس على طريقة المثل العربي الدارج "المسامح كريم"
التسامح . . شيء آخر تماماً .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"