التفوق الدراسي ونهضة الوطن

02:31 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. مصطفى الفقي
يلحّ على خاطري في السنوات الأخيرة هاجس متكرر كلما سمعت عن نتائج الثانوية العامة وغيرها من الشهادات، بحيث نجد العشرات من الحاصلين على مئة في المئة أو ما يقترب منها بل ويزيد عليها أحياناً عند إضافة درجات لمواد التخصص!، ومع تزايد هذه المعدلات الرقمية ذات الدلالة الكمية فقط والتي لا تعبر عن نقلة نوعية حقيقية نكتشف في ذات الوقت تراجع العملية التعليمية وانخفاض مستوى الخريجين والخريجات في مختلف الشهادات وعلى جميع المستويات، فالكر والفر بين صفحات المقررات الدراسية لا يعبر عن تميز دراسي أو تفوق علمي، بل هو يعني في أغلب الأحوال رغبة الطلاب في مستقبل فردي أفضل دون أن يقترن ذلك بالضرورة بإنجاز إضافي للوطن، فليس كل من تفوق دراسياً أصبح (أحمد زويل) وليس كل من حاز درجات عالية، وحصل على شهادة معينة هو إضافة إيجابية للوطن ومستقبله، وأنا أرى أن معدلات ارتفاع المجاميع الدراسية يكون في الأغلب المؤشر لتراجع التعليم وهبوط مستوى الدارسين وليس العكس، ولعلي أوضح ما أريد أن أصل إليه من خلال النقاط التالية:
أولًا: لم يقترن التفوق في مراحل الدراسة المختلفة بتفوق مماثل في الحياة العملية، فما أكثر أوائل الشهادات العامة ممن تاهوا في صحراء الحياة أو ذابوا في بحار الوظيفة، وليس يعني ذلك أن التفوق شيء مقيت أو علامة سلبية، ولكن المؤكد أنه لا يمكن القياس به للحديث عن نهوض التعليم في وقت فقدت فيه مصر عنصراً من أهم عناصر التميز وعاملاً من أهم عوامل القوى الناعمة وأعني به التعليم المصري الذي كنا نباهي به ونفاخر ونتحدث عن تأثيره في العالمين العربي والإسلامي، وبين أشقائنا في القارة الإفريقية، لقد انحسرت بعثاتنا التعليمية في الخارج، وانكمشت أعداد الراغبين في الالتحاق بجامعاتنا ومدارسنا من الدول الشقيقة والصديقة، وأصبحنا أمام مؤشر خطر لتراجع مشروع النهضة الذي كنا نحلم به عبر العقود الأخيرة.

ثانياً: إن كل الوصفات العصرية للمشروعات النهضوية تبدأ دائماً بالتعليم أو تدور حوله، وليت هؤلاء المتفوقين يضيفون اكتشافاً بسيطاً أو اختراعاً جديداً، بل إنني أزعم - وقد أكون ظالماً - أن النتيجة العالية قد ترتبط بنوع من الأمية الفكرية والثقافية التي تحرم صاحبها من الرؤية المتوقعة، وبالمناسبة فإنني لا ألقي باللائمة على وزراء التعليم الأساسي أو العالي في بلادنا، وفي ظني أن معظمهم بذل جهداً خالصاً بنية صادقة، ولكن جوهر اهتماماتهم انصرف إلى ترديد الأرقام العالية، والاهتمام بالمسائل الكمية، دون الغوص في فلسفة النظام التعليمي المصري وأسلوب إقالته من عثرته. والتعليم هو مرآة الأمم ترى فيه وجه المستقبل ورؤية الغد القادم؛ لأن التعليم هو صانع الإرادة الوطنية والرؤية العلمية في وقت واحد، إنه منظار العصر الذي ترى من خلاله الشعوب مستقبل أجيالها القادمة.

ثالثاً: إن مصر صاحبة أول حضارة ملهمة في التاريخ القديم، وهي دولة اعتنت تاريخياً بالتعليم، فالدولة المصرية الحديثة قامت على أكتاف المنظومة التعليمية التي أسس لها (محمد علي) بإيفاده البعثات إلى أوروبا ثم عودة قوافل التنوير يتقدمها أزهري بقيمة ومكانة (رفاعة الطهطاوي)، ولذلك فإن مقومات الدولة المصرية استندت في بداياتها إلى تميز مصر بالتعليم والثقافة، بل وكل أدوات التنوير العصري كما تحتاجها شعوب المنطقة، فأبناء مصر هم الذين علموا وبنوا وطببوا يوم أن كانت لديهم منظومة تعليمية يتطلع إليها كل من حولها حتى الملوك الشباب وأولياء العهود كانوا يقصدون مصر؛ طلباً لما هو موجود فيها وليس لدى غيرها.
رابعاً: إن مسيرة التنمية تحتاج إلى كوادر تختلف عما تقذف به الجامعات كل عام من أعداد هائلة لحملة الشهادات بلا مضمون أو جوهر، فالعملية التنموية تحتاج إلى تعليم مختلف يقوم على التدريب المهني والمهارة الحرفية، فمصر ليست بحاجة إلى مئات من شهادات الدكتوراه والماجستير التي يزين بها أصحابها صالونات منازلهم، فالأهم من ذلك كله أن يوجد الشاب أو الفتاة المؤهلان لروح العصر وتقاليده العلمية الجديدة والرغبة في البحث الجاد.
خامساً: إن نموذج أحمد زويل - رحمه الله - يجب أن يكون قدوة لأجيالنا الصاعدة في الربط بين التفوق العلمي والتميز العملي، وأنا لا أتصور أن كل طالب سوف يصبح (زويلاً) جديداً، ولكن أريده أن يدرك أنه لا توجد علاقة شرطية بين النتائج الدراسية والإسهامات العصرية في العلم والأدب والفن، التي يشكل مجموعها قاعدة ثقافية تعكس روح العصر بصدق ووضوح.

هذه كلمات من القلب للحاصلين على المجاميع العالية في (الأوكازيون) السنوي للثانوية العامة وغيرها من الشهادات، فالمهم هو الكيف لا الكم، المهم هو النقلة النوعية وليس الالتحاق بالكلية!

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"