الثورة السودانية.. أية فرصة؟

03:02 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسن العديني

السودانيون قاموا بثلاث ثورات شعبية مُبهرة لم تلبث الأولى والثانية أن سُرقتا من قبل ضباط في الجيش، عبثوا بالسياسة والاقتصاد والثقافة، وبالحياة كلها، كما أن السودان لم يتماثل مع بلدان عربية وأمريكية لاتينية وبعض آسيوية؛ حيث يسقط الانقلاب بانقلاب آخر من شركاء الأمس أو من طامعين جدد بالسلطة، ففيه لا تقع الدكتاتوريات على الأرض إلا بهبات شعبية، وأما انقلابات العسكر على العسكر فقد حصلت كثيراً، وفشلت دائماً، حتى الأحزاب جربت أن تأتي من هذا الباب ولم تنجح. الشيوعيون أنفسهم الذين ينظرون إلى الجيوش كأداة في يد الإقطاع والبرجوازية، حاولوا في 1971 ودفعوا أفدح الأثمان؛ عندما لم يكتف جعفر النميري بمعاقبة قادة الانقلاب وحدهم، وإنما أعدم معهم الأمين العام البارز للحزب عبد الخالق محجوب، وعدداً من رفاقه.
حاول «حزب الأمة» أن يصل إلى القصر الرئاسي فوق ظهور الدبابات، ولئن صمد الشيوعيون ثلاثة أيام؛ فإن حزب المهدي قضى نهاراً واحداً بلا ليل، وصبر الشعب السوداني على طغيان النميري، وفي ضميره تلك التجربة الرائدة في إسقاط دكتاتورية إبراهيم عبود سنة 1964، وأعاد الجيش التجربة في 1985 واكتمل الضوء؛ بالانتقال السلس مع جنرال غير طامع هو سوار الذهب.
كانت الأحزاب التقليدية لم تزل على حالها لم يمسسها سوء كبير، وإنما أصاب الانحسار الحزب الشيوعي والأحزاب الليبرالية، وفي الفراغ تقدم «الإخوان المسلمون»، و«الإخوان»، كما هي تجربتهم في كل مكان، يشبهون المنتجات السلعية التي يختلف اسمها التجاري، ولا يتغير تركيب عناصرها ومفعولها سواء كان علاجاً ناجعاً أو سماً زعافاً، وهم من هذا النوع الأخير حملوا طبعتهم السودانية العلامة التجارية «الجبهة القومية الإسلامية»، كما اختارها زعيمهم حسن الترابي، الذي قال عنه أستاذه في الابتدائية «هذا الفتى سيثير فتنة عندما يكبر».
وكما أن «الإخوان» يتحالفون مع أشد الأنظمة سوءاً ثم يقفزون من مراكبها حين تجنح، فقد فعلوا ذلك مع النميري في أواخر حكمه، هناك في مطلع الثمانينات مارسوا الابتذال السياسي والأخلاقي أبشع ما يكون، وأطلقوا على النميري لقب «الخليفة السادس»؛ كي يقلدهم المناصب الحكومية، ويوليهم المؤسسات الاقتصادية، ويرخي لهم حبال السيطرة على الأنشطة التجارية والخدمية. في ذلك العهد أشبعوا شهوتهم في المال والنفوذ، وكذلك شهوة الانتقام من خصومهم حتى لم يكن إعدام المفكر الإسلامي محمد محمود طه أكثر من شاهد على الغل، وكان طغيان فسادهم أحد أسباب زيادة النقمة على النميري، ومع ذلك فقد تخلوا عنه في اللحظات الأخيرة، وركبوا موجة الثورة التي أطاحته، ثم مضت سنة انتقالية، وأجريت انتخابات جاءت بالصادق المهدي رئيساً للحكومة، وجرى ما جرى ومن وراء الأستار؛ حيث انكبت الجبهة القومية على التخطيط؛ لانقلاب عسكري نفذ بعد سنتين، وأدخل السودان في ثلاثة عقود من الدم والنار والخيانة.
لقد ارتدى الحكم وجهاً طائفياً بشعاً لم يراع التنوع الديني والعرقي، ولم يعترف به؛ فتوسعت الشروخ في النسيج الاجتماعي وزادت. في نفس الوقت صعد الحرب ضد الجنوب، وشن حروباً أخرى في دارفور بالشمال، وشرقاً عند النيل الأزرق، غير أنه في حمأة الفساد والسباق على المغانم، وعلى الأضواء نشب النزاع بين مهندس الانقلاب حسن الترابي ومنفذه عمر البشير؛ إذ أراد الأول أن يأخذ سلطات الرئيس إلى البرلمان الذي يرأسه هو؛ فاستبق الثاني وأمر بحل البرلمان وانقسمت الجبهة القومية إلى حزبين، (حاكم ومعارض).
مع ذلك، فإن التحدي الماثل أمام السودانيين اليوم ليس في المحاسبة على الماضي، وإنما في وجود أو عدم وجود فرصة حقيقية، لانتقال الثورة من الغضب إلى البناء، وأول التحديات التي يلمحها المراقب من بعيد هي أن الثوار لا يبدون كتلة واحدة تمتلك برنامجاً واضحاً، ولا توجد أحزاب وطنية متبلورة تستطيع أن تؤسس لنظام ديمقراطي، فقد نجح حكم «الإخوان» في تفتيت «حزب الأمة» وإضعاف «حزب الاتحاد الوطني»، وربما أن الحزب الشيوعي استعاد حضوره؛ حيث يلعب الدور الفاعل وراء تجمع المهنيين؛ إلا أن حزباً واحداً لا يكفي ولا يقدر، ولعله لا يرغب في الاستيلاء على السلطة بمفرده.
الخطر الحقيقي هو عودة «الإخوان»؛ من خلال «حزب المؤتمر»، الذي خرج به الترابي إلى المعارضة، وأرجح الظن أنه سيضم إليه قواعد وكوادر «حزب البشير»، والثورة قد تفرز أحزاباً ليبرالية؛ لكن بدون كتل كبيرة تضمن حياة سياسية صحية، غير أن خارج السياسة هناك المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي استشرت وتراكمت.
إن الشعب السوداني جبار في ثوراته، فهل يكون هذه المرة جباراً في بناء الدولة؟ ربما !

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"