الثورة على الثورة في مشهدين متعارضين

04:38 صباحا
قراءة 3 دقائق

الحسين الزاوي

تعيش منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على وقع تحولات سياسية ومجتمعية غير مسبوقة، أسهمت بشكل لافت في تغيير وعي وتمثلات الأفراد والمجموعات السكانية المختلفة لطبيعة الأشياء، بعيداً عن المرجعيات التقليدية، التي ظلت سائدة منذ تأسيس الدول الوطنية في هذا المحيط الجيوسياسي الشديد الحساسية والتعقيد. ونستطيع أن نلاحظ بكل وضوح؛ أن هناك صراعاً ما بين مختلف المكوّنات الأساسية المؤثرة في المشهد الداخلي لهذه الدول؛ من أجل الاستحواذ على الرموز، التي من شأنها التأثير بشكل كبير في الرأي العام، الذي يصبوا إلى إنجاز التغيير المنشود، الذي عجزت النخب الحاكمة على تحقيقه. ويتصل الجزء الأكبر من هذه الرموز، التي نتحدث عنها في هذه العجالة، بالبلاغة السياسية، التي ظلت بعض الأنظمة تحتكرها؛ من أجل إضفاء المشروعية على نظام حكمها، التي يمثل مصطلح «الثورة» قطب الرحى في معجميتها المتضخمة، في مجتمعات تتأثر إلى حد كبير بسحر الكلمات وبالدلالات الإيحائية المختلفة للألفاظ.
لقد شهد قوس الأزمة في المحيطين العربي والإسلامي منذ حوالي عقد من الزمن ثورات متعددة على ثورات سابقة عليها، داخل العديد من الأنظمة الجمهورية، بشكل أضحت تعيش فيه الثورات السابقة أزمة وجود في مواجهتها لثورات بديلة تحمل شعارات جديدة وتدعو إلى تبني قيم سياسية ورؤى مجتمعية مغايرة، تقول إنها تستجيب أكثر من غيرها لتطلعات الشعوب، وتسمح بالتالي بكسر احتكار الممارسة السياسية وبتحقيق تداول حقيقي على السلطة. وعليه فقد انتقلت الجغرافيا السياسية للمنطقة برمتها، بخطى حثيثة من مرحلة ثورات البندقية وأصحاب البزة العسكرية إلى مرحلة ثورات الحراك الشعبي وهتاف الحناجر؛ المطالبة بتوسيع دائرة المشاركة الشعبية في تسيير الشأن العام.
كانت البداية مع ثورة الضباط الأحرار في مصر بتاريخ 23 يوليو/تموز 1952، التي مثلت مرجعاً رئيسياً لمختلف الحركات الثورية في الوطن العربي وفي مقدمها ثورة نوفمبر/تشرين الثاني التحريرية في الجزائر سنة 1954، وقد بدأ بريق الثورة المصرية في التراجع بشكل تدريجي؛ بعد وفاة قائدها الرئيس جمال عبد الناصر، وتم النظر بموازاة ذلك إلى فترة حكم الرئيسين السادات ومبارك، على أنها تمثل تراجعاً كبيراً عن القيم السياسية التي دافعت عنها المرحلة الناصرية؛ بيد أن التطورات اللاحقة، التي عرفها المشهد المصري، جعل بعض القوى الشبابية تنظر إلى ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، بأنها تمثل ثورة على الثورة السابقة، وسعى تيار الإسلام السياسي في السياق نفسه إلى استثمار هذا الحدث الثوري لمصلحته في فترة حكم الرئيس المخلوع محمد مرسي.
وجاءت بعد ذلك ثورة 30 يونيو/حزيران 2013؛ لتُدخل مصر في صراع جديد؛ من أجل السيطرة على المرجعية الثورية، وصولاً إلى امتلاك حق توظيف الرموز السياسية المتنازع عليها؛ حيث قرأ أنصار الثورة في نسختها المعدّلة، في هذا التحوّل السياسي الجديد، تصحيحاً للمسار وعودة للمثل التي رفعتها ثورة 1952، بينما ذهب «الإخوان» المسلمون إلى وصفه بالانقلاب على «الشرعية».
وشهدت ليبيا في الفترة نفسها ثورة على الثورة؛ حيث جرى استبدال ثورة الفاتح من سبتمبر سنة 1969، بثورة 17 فبراير 2011، التي أدت إلى إنهاء نظام الجماهيرية، ودخول ليبيا في مرحلة غير مسبوقة من غياب الاستقرار، وانهيار مؤسسات الدولة. وكانت تونس قد عرفت في سياق هذا الحراك العربي، ثورة هادئة أدت إلى فرار الرئيس زين العابدين بن علي، أعقبها صراع مرير بين التيارين (الإسلامي والمدني)؛ من أجل إعادة رسم معالم هوية الدولة التونسية المعاصرة؛ وتمكنت القوى المدنية في الأخير، من تحويل ثورة الياسمين إلى امتداد للثورة الحداثية البورفيبية وليس إلى ثورة عليها، وفق ما كانت تصبو إلى تحقيقه قوى الإسلام السياسي بزعامة «حركة النهضة».
وبموازاة هذا الحراك الثوري العربي، الذي امتد نحو مناطق توتر أخرى في كل من سوريا واليمن وبدأ يشهد تحولات مأساوية؛ نتيجة التعقيدات الداخلية والتدخلات الخارجية التي ليس هنا مجال التفصيل فيها؛ عرف المشهد الإقليمي تطورات مماثلة وصراعاً مريراً بين مختلف القوى؛ من أجل السيطرة على الرموز الحضارية والتاريخية للدولة؛ إذ رأى أنصار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في السياسة المحافظة التي يطبّقها زعيمهم منذ وصوله إلى السلطة، ثورة «أردوغانية» على الثورة الكمالية.
ويمكن القول في الأخير، إن كل هذه الأحداث المتتالية تتشابه في أبعادها الجيوسياسية من حيث ارتباطها بمسارات ثورية متعارضة في سياق حراك مجتمعي وسياسي متواصل قائم على معارك حقيقية وأخرى رمزية، تتعلق في مجملها باستراتيجية التسميات؛ من ثورة على الثورة بالنسبة للقوى التي تسعى إلى تحقيق التغيير، إلى «ثورة مضادة» بالنسبة للقوى المنهزمة أو تلك التي تحاول الحفاظ على مكاسب الثورة السابقة، وصولاً في الأخير إلى بلورة معادلة سياسية قائمة على تثبيت موازين قوى جديدة في سياق مشهد إقليمي ودولي شديد الخطورة والاضطراب.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"