الجامعة . . انزواء غير منطقي

04:02 صباحا
قراءة 4 دقائق

تموج دنيا العرب حالياً بألف حدث وحدث . وهي أحداث ترسم بالفعل صورة مستقبل الأمة العربية . هناك الشعب العربي الذي يثور ويتحرك ليل نهار ويقدّم التضحيات والشهداء . بهذا يشهد العالم بإعجاب وانبهار .

أما أنظمة الحكم فإنّها بين متعنّت مصرّ على بقاء أوضاع الفساد والتسلط السابقة وبين أنظمة أفرزتها الثورات والحراكات ولكنها ظلّت عاجزة عن تحقيق أهداف وتطلعات الجماهير التي تملأ الشوارع والسّاحات .

هناك أيضاً القوى الدولية، منظمات ودول وتكتلات، تصول وتجول في طول وعرض الوطن العربي لتحل إشكالاته أو لتتآمر عليه أو لتضيف حطباً للنيران المشتعلة في كل مكان .

لكن أين الجامعة العربية؟

أينها مما يحدث يومياً ويتطوّر بسرعة هائلة؟ أين مساعيها الحميدة وتواجدها الدائم الذي يشعر به الجميع، وليس إطلالاتها الخجولة أو قبولها المحير بالانتظار حتى تدعوها هذه الجهة أو تلك لتؤدي أدواراً هامشية متباعدة؟

الواقع أن طبيعة هذه الجامعة أصبحت محيّرة . فمنذ إنشائها في عام 1945 وهي غير قادرة على حسم التناقضات التي تتجاذبها: مسؤوليات قومية ينص ميثاقها عليها، سيطرة قُطرية من هذه الدولة العربية أو تلك تتغير بصعود هذا القطر أو بضعف ذاك، وتدخل واختراق من قبل قوى دولية هي الآخرى تتبدل بتبدُل الأزمنة .

هذه التجاذبات هي في الواقع تصارع إرادات، البعض منها يحاول الهيمنة على هذه المؤسسة العربية وحرفها عن مسؤولياتها الأساسية التي نص عليها ميثاق تأسيسها، وفصّلتها العديد من البروتوكولات والاتفاقيات التي وقّعت عبر مسيرتها الطويلة .

في حاضرنا، منذ تلاطم أمواج ثورات وحراكات الربيع العربي، تتجلّى مافعلته تلك التناقضات والصّراعات بالجامعة والتي أوصلتها إلى الحالة الباهتة العاجزة غير الفاعلة التي نراها أمامنا ونأسف لها .

وللحقيقة فإن ذلك ليس بمستغرب . إنه نتيجة منطقية لتمسك أنظمة الحكم في الأقطار العربية بما تعتبره سيادة وطنية مقدسة لايمكن التنازل عن ذرة منها حتى في سبيل المصالح العربية العليا أو سبيل خلاص الأمة . وقاد ذلك التمسك إلى رفض أو تمييع جميع مقترحات ومشاريع إصلاح الجامعة العربية سواء تلك التي قدمتها أمانة وقيادة الجامعة العربية نفسها أو تلك التي قدمتها هذه الحكومة العربية أو تلك بين الحين والآخر .

ولقد استبشرنا خيراً منذ عام 2000 عندما قررت العديد من القمم العربية الدخول في عملية إصلاح الجامعة العربية وإعادة هيكلتها، وذلك من أجل إعدادها لتسهم بفاعلية في تطوير وتجويد العمل العربي المشترك . لكن ما إن تقدمت الأمانة العامة بمشروع شامل معقول لنقل الجامعة إلى مستوى القدرة والفاعلية والمبادرة حتى انهالت الاعتراضات والتعديلات والتحفظات من هذه الجهة أو تلك . ولسنا هنا بصدد الدخول في تفاصيل مشروع الجامعة العربية الكبير الذي بلغ نحو مئة وتسعين صفحة أو في تفاصيل العديد من المذكرات التي تقدّمت بها بعض الدول العربية .

لكن الواضح هو أن عملية الإصلاح قد تعثّرت وبقيت الجامعة في عجزها التاريخي، وأن حليمة قد عادت إلى عاداتها القديمة من قول كثير وفعل وتنفيذ حقيقي قليل .

هنا يجب التنبيه إلى أن تعديل ميثاق الجامعة وإصلاح ادارتها وهياكلها وتوسيع صلاحياتها سيظل غير كاف إن لم تصاحب ذلك إرادة سياسية عربية مشتركة تنطلق من التزامات قومية صادقة ومن توقف عن الاستخفاف بمطالب الشعوب الجديدة، وعلى رأسها الديمقراطية والعدالة .

وجود هذه الإرادة هو الذي سيسّهل عملية الإصلاح، وغيابها هو الذي سيجعل من كل عملية إصلاح ترقيعاً ومكياجاً يخفي الترهل والعجز .

تلك الصورة البائسة تفسّر الدور البائس الذي تلعبه الجامعة في الساحات العربية المتلاطمة بالأحداث والحبلى بالإمكانات الهائلة . يضاف إلى ذلك إصرار بعض الأنظمة العربية على إبقاء الجامعة كمؤسسة ممثلة للحكومات، بما يتبع ذلك من تمثيل ضعيف هامشي للمجتمع المدني في الجامعة .

لعلّ أفضل توضيح لما نقول هو غياب الجامعة المحيّر في الساحة العراقية، بينما يقف العراق كدولة على هاوية الدّمار والموت والاختفاء من الخريطة العربية، أو الغياب المحيّر في ساحة مصر .

في مصر ما بعد تغيرات 30 يونيو تأتي الوفود الدولية والإقليمية تباعاً لتعرض خدماتها في المساعدة على لمّ الشمل وإيجاد المخارج المرحلية على الأقل، بينما تظلُ الجامعة في انزواء غير مفهوم وغير منطقي .

هذان مثلان فقط، إذ لا شك أن هناك حاجة لتواجد الجامعة في ليبيا واليمن وسوريا والسودان، بل في معظم أقطار الوطن العربي، لكن تواجد الجامعة إمّا معدوم وإما ضعيف مهمش .

إذا كانت هذه الأحداث التاريخية الهائلة الكبرى لا تؤدي إلى تفجير طاقات الجامعة ولا إلى لعبها دوراً إبداعياً مساعداً ولا إلى رفض ترك الساحة للقوى غير العربية لتؤدي أدوارها المشبوهة والخطرة . . إذا كان كل ذلك يحدث ونرى الوفود تأتي وتذهب، ونسمع التصريحات من كل أرجاء المعمورة، لكن لا نرى ولانسمع عن وجود حقيقي فاعل بنّاء للجامعة لمنع الانهيارات والانقسامات والتصدّي للدور الصهيوني - الأمريكي المتناغم، فإنه يحقُ لنا أن نطرح السؤال: أين الجامعة العربية من الربيع العربي؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"