الجزائر وبرميل البارود في مالي

03:04 صباحا
قراءة 4 دقائق

ما يحدث على الحدود الجنوبية للجزائر في شمال مالي يطرح تساؤلات عديدة بخصوص القوى الحقيقية التي تدير الصراع في المنطقة، كما يفرض أيضاً تحديات كبيرة على مجموع دول المنطقة التي ترتبط في مجملها بعلاقات وثيقة بفرنسا القوة الاستعمارية السابقة . ولا نذيع سراً هنا إذا قلنا إن مجموع دول المنطقة تنخرط بشكل مباشر أو غير مباشر في رهانات جيو سياسية وجيوإستراتيجية يخطط لها ويرعاها قصر الإليزيه، باستثناء الجزائر التي تظل حتى الآن تغرد خارج السرب وتحتفظ بهامش معتبر من الاستقلالية في سياستها الخارجية وتحديداً تجاه فرنسا . بل إن فرنسا لجأت إلى حد التصريح غير مرة، أن الجزائر تعرقل مصالحها في المنطقة، وذهب الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي إلى القول إنها - أي الجزائر- تمتلك مفاتيح المنطقة، خاصة أنها شرعت، قبل فترة وجيزة من تردي الأوضاع الأمنية في شمال مالي، في عملية استكشافية، بناءً على اتفاق مسبق مع حكومة باماكو، يهدف إلى التنقيب عن البترول والغاز في الشمال، الذي يمثل امتداداً جيولوجياً وطبيعياً مع الصحراء الجزائرية في الجنوب .

وعليه فإن الصراع في شمال مالي لا يتصل فقط بما يسمى الحرب على الإرهاب، فهناك بموازاة هذه الحرب الأمنية، حرباً أخرى أشد ضراوة ما بين أجهزة الاستخبارات التابعة للقوى الغربية والإقليمية في المنطقة . وهذا ما يفسّر إلى حد بعيد إصرار فرنسا على تدشين حربها البرية ضد معاقل المتطرفين في الساحل .

ومن الجلي وفقاً لأغلب التحليلات المتصلة بالموضوع، أن الجزائر كانت تأمل في الحصول على مزيد من الوقت من أجل تجنيب أراضيها تبعات التدخل الأجنبي في المنطقة، ويمكن الاستنتاج بناءً على ما سبق أن أحداث المركب الغازي بعين أمناس، دلّت على أن المخاوف الجزائرية كانت مبررّة .

هناك من ناحية أخرى مؤشرات عديدة تشير إلى أن فرنسا ستلجأ لاحقاً إلى تبرير أي فشل قد يلحق بعملياتها العسكرية في مالي من خلال تحميل الجزائر الجزء الأكبر من المسؤولية، فقد تساءلت وسائل إعلامية فرنسية، إذا لم يكن الفرنسيون بصدد ارتكاب الخطأ الأمريكي نفسه في منطقة الساحل، عندما يضعون الجزائر خارج هذا الملف، وهي التي تلعب في أعين هذه الوسائل الإعلامية، الدور الملتبس والغامض نفسه الذي كانت تلعبه باكستان في حرب الناتو ضد أفغانستان .

والحقيقة أن الجزائر كانت قد استبقت كل هذه التأويلات، بتعزيز قواتها العسكرية في مناطقها الجنوبية منذ سقوط نظام القذافي، من أجل التصدي لنشاط المجموعات المتطرفة خصوصاً بعد انتشار فوضى السلاح في المنطقة، وبالتالي فإن سماح الجزائر للطائرات الفرنسية بعبور أجوائها كان بمثابة استجابة واضحة لقرارات الأمم المتحدة من جهة، ورداً على محاولات التشويه الفرنسية من جهة أخرى . وذلك من منطلق أن فرنسا ما زالت تروج لأطروحة مفادها أن الجزائر سعت إلى التخلص من الإرهاب في مناطقها الشمالية، من خلال دفع المجموعات المسلحة إلى الفرار نحو الجنوب باتجاه الأراضي المالية .

ويمكن القول في سياق متصل، إن خطف القنصل الجزائري بمدينة غاو شمال مالي، كان يهدف إلى إحراج السلطات الجزائرية ودفعها إلى التورّط في النزاع، كما كان يهدف في اللحظة نفسها إلى اختبار ردود أفعالها، خاصة في ما يتعلق بتأكيدها المستمر أن قواتها العسكرية لا يمكن أن تتدخل خارج حدودها الإقليمية وفقاً لما نصت عليه الدساتير الجزائرية منذ الاستقلال . وعليه فقد ذهبت أوساط جزائرية ووسائل إعلام محلية إلى التأكيد أن حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا على صلة وثيقة بالاستخبارات الغربية واستخبارات قوة أخرى إقليمية تتنافس مع الجزائر على زعامة المنطقة، خاصة أن المسؤول الأول في هذا التنظيم قد أُطلق سراحه من قبل السلطات الحاكمة في باماكو بعد ضغوط كبيرة من باريس من أجل الإفراج عن الرهينة الفرنسي السابق بيير كمات .

ومن الواضح في أعين الكثير من الملاحظين، أن الهدف الأساسي للتدخل الفرنسي في شمال مالي هو حماية مناجم اليورانيوم الموجودة على مقربة من الحدود المالية على الضفة المقابلة في دولة النيجر، كما تسعى باريس في اللحظة نفسها إلى حماية مصالحها في مجموع دول إفريقيا الغربية، لأن عدم استقرار مالي سيؤثر في اعتقادها باستقرار حلفائها في باقي دول غرب إفريقيا، كالسنغال وبوركينا فاسو وساحل العاج (كوت ديفوار) . أما السلطات الجزائرية فتتخوف من تداعيات ما يحدث في مالي على أمنها من منطلق أن الوضع جد معقد، نظراً لتضارب الرهانات المرتبطة بهذا الملف من ناحية، ونتيجة لتعدد الأطراف الفاعلة والمؤثرة في هذه المنطقة من ناحية أخرى . وبالتالي فإن الجزائر مازالت تبذل قصارى جهدها من أجل ألا يدخل الانفصاليون الطوارق في تحالف لا يمكن فكّه مع الجماعات الإسلامية المسلحة، لأن من شأن ذلك أن يؤثر بشكل مباشر في الطوارق في الجزائر .

إن الجزائر وإن كانت لا تعارض من حيث المبدأ كل محاولة تهدف إلى القضاء على الجماعات الإرهابية والمتطرفة، فإنها لا تريد في المقابل أن يتعرّض الطوارق للأذى لأن من شأن ذلك أن يهدّد أمنها ووحدتها الترابية، خاصة أن هناك أطرافاً عديدة تريد أن تضغط عليها من خلال الملف المالي من أجل تقديم تنازلات في ملفات إقليمية أخرى في المنطقة، وقد تسعى هذه الأطراف، في حال ما إذا تطورت الأوضاع بشكل مأساوي، إلى دعم المشروع المشبوه الذي يهدف إلى إنشاء دولة كبرى للطوارق، تضم أجزاءً من ليبيا والجزائر ومالي والنيجر . ويمكن القول في الأخير إن الجزائر تعيش الآن فترة من أصعب فترات تاريخها المعاصر، نظراً للتحولات الكبرى التي حدثت على مستوى جوارها الإقليمي، وهي مطالبة الآن بحماية حدودها المترامية الأطراف بشكل منفرد، بسبب الضعف المرحلي للمؤسسات الأمنية في كل من تونس وليبيا الناجم عن التحولات السياسية في هذين البلدين من جهة أولى، ونتيجة لبرميل البارود في مالي المعد للانفجار على بعد آلاف الكيلومترات داخل التراب الجزائري من جهة ثانية، وذلك فضلاً عن ملف النزاع في الصحراء على الحدود الغربية، الذي ما زال يراوح مكانه .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"