الجناح الثاني لإصلاح المجال الديني

05:26 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو
مثلما استطاعت تنظيمات الجهاد الإسلامي التكفيري العنفي تغيير مسمياتها ووسائل عملها وأهدافها المرحلية عبر العقود من السنين، فإنها ستستطيع بعد كل معركة تخسرها في العراق أو سوريا أو اليمن أو ليبيا، وفي أي مكان في الأرض العربية وفي العالم، أن تغير من ملامحها وأقنعتها لتستمر في الوجود. من هذه التغيُّيرات المنتظرة حديث قادتها عن الاستعداد للانتقال من مرحلة الجيوش واحتلال الأراضي وإقامة حكم الخلافات إلى مرحلة الذئاب المنفردة.
تقول إحدى تعليماتهم إلى أتباعهم: احلقوا لحاكم واستبدلوا ملابسكم بالملابس الغربية وتعطروا بالعطور التي تحتوي على الكحول.
نحن إذاً أمام امتداد في الأفق المستقبلي البعيد، بتكيفات لا حصر لها ولا عد، ولكن ببقاء ذات الفكر ونفس الفهم الديني الكامنين وراء أكبر وأعقد ظاهرة سياسية - أمنية - اجتماعية - ثقافية سيواجهها العالم طوال هذا القرن.
وبالرغم من أهمية الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي تقف وراء هذه الظاهرة، إلا أننا نعتقد مع كثيرين آخرين، بأن السبب الأهم والأخطر يكمن في علل وأزمات المجال الديني الإسلامي الذي أحاط بمنطوق الوحي وبفهم مقاصده الكبرى وقيمه السامية.
وإذا كانت محاولات إصلاح تلك العلل والأزمات قد توجهت إلى الإصلاح الذاتي الديني في حقول من مثل علوم الحديث والفقه والاجتهاد، منذ المحاولة الكبيرة لمحمد عبده ومجموعة متميزة من الإصلاحيين الإسلاميين المبدعين، إلا أن الإصلاح الذاتي ذاك لن يكفي. إنه جناح واحد لن يكفي لتحلق حركة الإصلاح في الفضاء الحضاري السامي الإنساني.
فهناك حاجة للجناح الإصلاحي الثاني: جناح التعامل الإسلامي مع عدد من أطروحات الحداثة التي تتحدى المجتمعات العربية والإسلامية في العصر الذي نعيش. ونحن هنا لا نتحدث عن تعامل متبني تقليدي وسلبي أعمى، وإنما عن تعامل تلاقحي تفاعلي، فكري ومنهجي، ندي وإبداعي.
لكن ذلك التعامل التحليلي النقدي التجديدي لمقولات الحداثة يتطلب أن يسير يداً بيد مع الإصلاح الذاتي للمجال الديني الذي ذكرنا. وبدون ذلك لا يمكن الوصول إلى حداثتنا العربية والإسلامية الذاتية.
ولنتذكر بأنه لا توجد حداثة واحدة، وإنما حداثات بظلال ومستويات متعددة.
من بين هذه الشعارات والتعابير والقضايا التي أصبحت في صلب الواقع الذي يعيشه الفرد المسلم وتعيشه المجتمعات الإسلامية، ويتفاعل بألف شكل وشكل مع الواقع الذي يعيشه غير المسلم وتعيشه المجتمعات غير الإسلامية.. من بينها وأبرزها الآتي:
العلمانية: سواء أجرى الحديث عن العلمانية (من العلم) أو العلمانية) (من العالم الدنيوي)، أو قسم الموضوع إلى علمانية إيمانية وعلمانية إلحادية، أو إلى علمانية جزئية وعلمانية شاملة، أو إلى تقسيمات أخرى، فإن الموضوع يحتاج إلى الحسم من خلال جهد فكري وفلسفي عميق يخرجنا من المشاحنات التي طال عليها الزمن. فحسم هذا الموضوع له تأثيراته الكبرى على عوالم السياسة والاجتماع والثقافة والفنون والدين.
* موضوع العنف: هذا موضوع أصبح حديث الساعة. ولذلك لا بد من حسم جوانبه النظرية والإيمانية ومحدداته ومشروعيته، التي تستقى من المقاصد الكبرى لمنطوق الوحي الإلهي في الدرجة الأولى.
* قبول الآخر: أصبح موضوع التعايش السلمي بين أتباع الدين الإسلامي والديانات الأخرى يحتاج إلى قراءات جادة تزيل ما علق بهذا الموضوع من سوء فهم للرسالة المحمدية.
* التخلص من ترسبات التاريخ في الذاكرة الجمعية، أي تطهيرها الذهني والنفسي من مشاحنات وبلادات وآلام الماضي، سواء أكان تاريخ المسلمين فيما بينهم أو تاريخ المسلمين مع غيرهم.
* الديمقراطية: ما عاد استرجاع تعابير البيعة وأهل الحل والعقد والشورى والخلافة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتكريم المرأة كافياً. هناك استحقاقات للديمقراطية، مبادئ وممارسة، تحتاج إلى حسم نهائي وواقعي.
في داخل هذا الموضوع تكمن متطلبات كثيرة من مثل المواطنة، والمجتمع المدني، وحقوق الإنسان، وحرية الاعتقاد والضمير، ومساواة الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، والحريات الشخصية والاجتماعية، وممارسة الفنون، وغيرها. وفي السياسة هناك مواضيع تبادل السلطة والتعددية والإيديولوجية وأسس قيام الدولة والمبادئ الدستورية. كل ذلك يحتاج إلى أن يصل إلى الوقوف على أسس مقبولة مجتمعياً وغير متحاربة ليل نهار.
من الضروري الاستيعاب الكامل بأن الشروط السياسية والاجتماعية والثقافية والتاريخية في بلاد العرب قد تغيرت، وعليه فإن معاني منطوق الوحي الإلهي، تحتاج إلى أن تتعامل، بقوة وإلحاح وإبداع وتفهُم، مع كل التغيرات.
موضوع إصلاح المجال الديني الذي يقود إلى إصلاح حداثي هو وحده الذي سيقف في وجه الأهوال التي ستفرضها ظاهرة الذئاب المنفردة على بلاد العرب والمسلمين وعلى العالم كله.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"